في خطوة لافتة تندرج في إطار الدبلوماسية الموازية ذات البعد الاستراتيجي، أجرى وفد رفيع من حزب التقدم والاشتراكية المغربي، برئاسة الأمين العام "محمد نبيل بنعبد الله" وعضو المكتب السياسي المكلف بالعلاقات الخارجية "سعيد البقالي"، سلسلة لقاءات هامة ومثمرة في العاصمة الكوبية هافانا، مع عدد من القيادات البارزة في الحزب الشيوعي الكوبي، في طليعتهم "إيميليو لوثادا غارسيا"و "خورخي بروتشي لورنزو"، إلى جانب رؤساء مؤسسات فكرية وأكاديمية لها وزنها في تشكيل الرؤية السياسية الكوبية، من قبيل جامعة "نيكو لوبيز" والمعهد الكوبي للصداقة مع الشعوب.
هذه الزيارة تأتي في سياق دولي معقد يتسم بإعادة ترتيب موازين القوى وبروز واقع جيوسياسي جديد، مما يمنح هذا التحرك المغربي دلالات عميقة تتجاوز الطابع الحزبي أو البروتوكولي. فكوبا، تاريخيًا، تُعد من أبرز الحلفاء الايديولوجيين والسياسيين للجزائر، وواحدة من الداعمين التقليديين لجبهة البوليساريو، وهو ما يجعل من هذه المبادرة المغربية جرأة سياسية محسوبة، تروم فتح قنوات تواصل هادئة وعقلانية مع طرف ظل لفترة طويلة في موقع المعارضة التلقائية لمواقف المغرب في قضية وحدته الترابية.
وفي خضم النقاشات التي طبعها التقدير المتبادل والصراحة الرفاقية، تناول الجانبان الأوضاع الصعبة التي يعيشها الشعب الكوبي نتيجة الحصار الأميركي الخانق والإجراءات العقابية الجائرة التي تستهدفه منذ عقود، حيث عبّر وفد حزب التقدم والاشتراكية عن تضامنه الكامل مع كوبا، مجددًا مواقفه الثابتة إلى جانب الشعب الكوبي في صموده البطولي. وفي المقابل، حرص الوفد على إبراز التزام الشعب المغربي بمواصلة مسيرته التحررية، عبر استكمال وتوطيد وحدته الترابية على كامل ترابه الوطني، ومواصلة البناء الديمقراطي، وتعزيز التقدم الاقتصادي، وترسيخ العدالة الاجتماعية، في إطار مشروع وطني مستقل ومتماسك، يؤمن بقيم السيادة والتضامن بين الشعوب. وخلف هذه الرسائل السياسية الواضحة، برزت مقاربة ناعمة تهدف إلى تفكيك الصور النمطية وتليين المواقف الجامدة، لا سيما في ما يتعلق بالموقف الكوبي التقليدي من نزاع الصحراء.
في سياق متصل، يرى عدد من المحللين أن حزب التقدم والاشتراكية، بما له من تاريخ أممي، يتحرك ضمن منطق يخدم الدبلوماسية الوطنية، ويُسهم من موقعه في تثبيت الرؤية المغربية داخل المحافل الحزبية الدولية، خصوصًا تجاه دول كانت حتى وقت قريب تصطف بشكل أوتوماتيكي إلى جانب الطرح الانفصالي. وبقدر ما تحمل هذه الزيارة بعدًا رمزيًا، فإنها أيضًا تعبّر عن نضج في أداء الأحزاب الوطنية، التي باتت تدرك أن الدفاع عن القضايا الاستراتيجية، وعلى رأسها قضية الصحراء، لم يعد حكرًا على القنوات الرسمية، بل أصبح واجبًا وطنيًا يشمل كل الفاعلين.
ووفق ذات المصادر، تبدو هذه المبادرة وكأنها محاولة لإعادة هندسة العلاقات جنوب-جنوب على أسس جديدة، بعيدة عن منطق الحرب الباردة و الاستقطاب الإيديولوجي الجامد، وقريبة من مفاهيم المصالح المتبادلة والحوار العقلاني. وهو ما يمكن أن يفتح آفاقًا جديدة ليس فقط في مسار العلاقات الثنائية بين المغرب وكوبا، بل في مسار تليين مواقف دول أمريكا اللاتينية بخصوص ملف الصحراء المغربية، لا سيما داخل أروقة المنتديات الأممية.
إلى جانب ذلك، يرى ذات المراقبين أن التجارب السابقة أثبتت بشكل ملموس أن كثيرًا من التحولات الكبرى تبدأ من نوافذ صغيرة، وأن الدبلوماسية الحزبية حين تكون واعية برهاناتها، يمكن أن تؤسس لتحولات تدريجية في مواقف شركاء تقليديين لخصوم المغرب. ومن ثم، فإن زيارة وفد حزب التقدم والاشتراكية إلى كوبا ليست مجرد زيارة مجاملة، بل هي خطوة ذكية نحو إعادة تشكيل فضاءات التفاهم مع دول ظلت لفترة خارج دائرة الحوار، في أفق بناء توازنات جديدة تخدم وحدة المغرب الترابية وتدعّم حضوره داخل المشهد الدولي المتغير.
0 تعليق