الصمت.. دروس من أعلى القِمم

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الصمت.. دروس من أعلى القِمم, اليوم الأحد 8 ديسمبر 2024 11:29 مساءً

كشخص وقف على قِمم العالم السبع الأعلى، تعلمت أن الصمت ليس مجرد غياب للصوت، بل هو مساحة للاكتشاف. في المرتفعات الشاهقة، حيث الهواء رقيق، وكل خطوة تشكل تحدّياً، يصبح الصمت أكثر من مجرد خلفية؛ إنه معلم. إنه يجبرك على مواجهة ذاتك بطرق تحوّلك وتجعل منك شخصاً أكثر تواضعاً وقوة.

عندما تكون وحدك على الجبل، لا يوجد ضجيج، لا مواعيد نهائية، ولا إشعارات. فقط أنت، وأفكارك، وعظمة الطبيعة من حولك. هذه العُزلة، رغم أنها تبدو مهيبة في البداية، تفتح لك باباً نحو الوضوح. لحظات السكون تلك، ساعدتني على التفكير في قراراتي، وإعادة توجيه أهدافي، والمضي قُدماً ليس فقط على الجبل، ولكن أيضاً في الحياة.

في عالمنا السريع والمزدحم، أصبح الوقت الهادئ نادراً. نحن نعيش في حركة دائمة، محاطين بالتشتيت، من رسائل البريد الإلكتروني، إلى إدمان وسائل التواصل الاجتماعي. ومع ذلك، فإن الدروس التي تعلمتها على القمم، تذكرني أن الصمت ليس فراغاً، بل هو قوة عظيمة للنمو. ففي الصمت نفكِّك أفكارنا، نستعيد تركيزنا، ونعيد الاتصال بما هو فعلاً مهم.

الدراسات الحديثة تؤكد ما أدركه المتسلقون والمفكرون منذ فترة طويلة: الصمت له فوائد ذهنية وجسدية عميقة. بحث أجرته إيمك كيرستي من كلية الطب بجامعة ديوك، أظهر أن الصمت يعزِّز تطوير خلايا دماغية جديدة في منطقة الحُصين، وهي المنطقة المسؤولة عن التعلُّم والذاكرة. الطبيب لوتشيانو برناردي، اكتشف أن دقيقتين فقط من الصمت بين مقطوعات موسيقية، كانتا أكثر استقراراً للجهاز القلبي التنفسي، من الموسيقى الموصوفة بأنها “مريحة”.

ودراسة أجريت عام 2013 في مجلة علم النفس البيئي، وشملت 43,000 موظف، أظهرت أن أضرار الضوضاء، والتشتيت في بيئات المكاتب المفتوحة، تفوق الفوائد المحتملة المرتبطة بالتفاعلات غير المخططة. هذه النتائج تسلِّط الضوء على قوة الصمت في استعادة التوازن العقلي والجسدي، ممَّا يوضح أن الصمت ليس مجرد رفاهية، بل ضرورة للنجاح في بيئاتنا المعقَّدة والمتسارعة.

لكن الصمت الذي نحتاجه، ليس فقط للهروب من الضوضاء الخارجية. الصمت الحقيقي يتطلب تهدئة الضوضاء الداخلية، ذلك الحوار المستمر من الأفكار، والمخاوف التي تشوش أذهاننا. وكما أشار الكاتب جاستن زورن، فإن الصمت الحقيقي، يهدئ ردود الفعل العقلية، التي تسعى دوماً لحماية سمعتنا، أو الترّويج لوجهة نظر معينة. هذا الصمت العميق، يتيح لنا التحرُّر من الحاجة إلى الردّ أو التفاعل، ممّا يمنح أذهاننا الحرية للتفكير بوضوح وإبداع.

إبدأ يومك بالصمت: خصص خمس دقائق في الصباح للتأمل، أو الجلوس بهدوء. خذ استراحات صامتة: اترك مكتبك، ضع هاتفك جانباً، وامنح نفسك بضع دقائق في مكان هادئ. افصل نفسك بانتظام: خصص فترات يومية أو أسبوعية تنفصل فيها عن الشاشات، والإشعارات لتعيد التواصل مع ذاتك. استكشف الطبيعة: اقضِ وقتاً في الهواء الطلق دون سماعات أو مشتِّتات، ودع الطبيعة تقود أفكارك.

الصمت هدية في عالم نادراً ما يتوقف. سواء وجدته على قمة جبل، أو في لحظات هدوء يومك، فإنه يمتلك قوة لإعادة التوازن، والإلهام، والتحول. ليس الصمت مجرد هروب من الضوضاء، بل هو اكتشاف للوضوح، وبناء للمرونة، وإعادة اتصال مع ذاتك.
مثل كل متسلق يتوقف خلال الصعود للتفكير، وإعادة ضبط مساره، نحن جميعاً بحاجة إلى لحظات من الصمت، لنتنقل عبر قمم الحياة ووديانها. الصمت ليس ترفاً؛ إنه ضرورة، ومساحة تنبثق فيها أفضل أفكارنا، وأعمق بصيرتنا. تبناه، وشاهد كيف يعيد تشكيل رؤيتك للحياة، لحظة صمت واحدة في كل مرة.

jebadr@

أخبار ذات صلة

0 تعليق