نتعرض في عصرنا الحالي لوابل مستمر من الخطابات الإعلامية التي تقدم لنا نسخة من الذكاء الاصطناعي مصممة بدقة لتبدو كأنها نسخة رقمية منا نحن البشر، فهذه النسخة تصوغ عبارات لغوية مصقولة بعناية، وتحاول تقليد تعابير المشاعر الإنسانية، وتبدي سلوكًا يوحي بالفضول، وتدعي امتلاك القدرة على التعاطف مع الآخرين، بل وتتعدى حدودها لتزعم أنها قادرة على محاكاة الإبداع البشري والتفوق عليه.
ولكن وراء هذه الواجهة المثيرة للإعجاب تكمن حقيقة صادمة ومقلقة وهي: الذكاء الاصطناعي، بشكله الحالي، لا يمتلك أيًا من هذه الصفات، إنه ليس بشرًا، وتقديمه على هذا النحو يحمل في طياته مخاطر جسيمة، لأن قوة الذكاء الاصطناعي تكمن في قدرته الفائقة على الإقناع، ولا يوجد شيء أشد خطرًا من الوهم الذي يبدو حقيقيًا لدرجة يصعب مقاومتها.
الذكاء الاصطناعي العام.. مجرد خيال علمي حتى الآن:
يجب أن ندرك أن ما نطلق عليه اليوم (الذكاء الاصطناعي) ليس سوى آلة إحصائية متطورة، أو ببغاء رقمي يعيد إنتاج الأنماط التي استخلصها من كميات ضخمة من البيانات التي أنتجها البشر، فعندما يجيب عن سؤال، فإنه لا يفكر أو يفهم، بل يقوم بعملية تخمين إحصائي معقدة للحرف أو الكلمة التالية الأكثر احتمالًا في التسلسل، بناءً على تدريبه المكثف.
ويعني ذلك أن الذكاء الاصطناعي يفتقر إلى أي شكل من أشكال الفهم الحقيقي، ولا يمتلك وعيًا أو معرفة بالمعنى الإنساني الأصيل، فما نراه هو مجرد براعة هندسية فائقة قائمة على الاحتمالات، لا أكثر ولا أقل.
أما فكرة الذكاء الاصطناعي العام (AGI)، ذلك النوع النظري الذي يُفترض أنه يحاكي القدرات المعرفية البشرية بنحو كامل، لا تزال حبيسة الخيال العلمي، وقد تظل كذلك لسنوات طويلة قادمة.
لماذا قد يكون تحقيق الذكاء الاصطناعي العام أمرًا مستحيلًا؟
يكمن السبب الرئيسي في ذلك في أن الذكاء الاصطناعي يفتقر إلى الجسد، ومن ثم يفتقر إلى الحواس التي تربطنا بالعالم المادي، وإلى اللحم والدم والأعصاب التي تجعلنا نشعر بالألم والمتعة، كما أنه لا يعرف الجوع أو الرغبة أو الخوف تلك المحركات الأساسية للسلوك البشري، ويصنع هذا الغياب التام للتجسيد فجوة جوهرية وربما لا يمكن تجاوزها بين البيانات التي يستهلكها – وهي بيانات نابعة بالكامل من المشاعر والتجارب البشرية المتجسدة – وبين قدرته على فهمها أو التفاعل معها على مستوى إدراكي حقيقي.
ويطلق الفيلسوف ديفيد تشالمرز على الآلية المعقدة التي تربط بين جسدنا المادي والوعي اسم (مشكلة الوعي الصعبة)، وقد توصل علماء بارزون آخرًا إلى افتراض مفاده أن الوعي ينشأ في الواقع من تكامل الحالات الذهنية الداخلية مع التمثيلات الحسية، مثل: التغيرات الفسيولوجية في معدل ضربات القلب والتعرق وغير ذلك الكثير من الاستجابات الجسدية.
ونظرًا إلى الأهمية القصوى للحواس والعواطف البشرية في عملية نشوء الوعي وتشكله، يوجد انفصال عميق وربما لا يمكن التوفيق بينه وبين الذكاء الاصطناعي العام، الذي هو في جوهره آلة، والوعي، الذي هو ظاهرة إنسانية فريدة.
ما مخاطر أنسنة الذكاء الاصطناعي؟
يُعدّ إعطاء الذكاء الاصطناعي وجهًا أو صوتًا أو نبرة بشرية هو بمنزلة تنكر رقمي خطير، فهذا ما يُطلق عليه (أنسنة الذكاء الاصطناعي)، ويثير ذلك فينا استجابة غريزية تجعلنا ننسب إلى الآلة صفات إنسانية لا تمتلكها، ويقودنا ذلك إلى تصديق ادعاءات غريبة مثل أن الذكاء الاصطناعي قد نجح في اجتياز (اختبار تورينج) Turing test الشهير، الذي يختبر قدرة الآلة على إظهار سلوك ذكي يكافئ السلوك البشري.
وقد أثبتنا أن هذا الإدعاء أنه غير صحيح في مقال سابق بعنوان: “الذكاء الاصطناعي يجتاز اختبار تورينج الشهير.. فهل اقتربنا فعلًا من الذكاء البشري؟” يمكنك الاطلاع عليه لمعرفة الأسباب.
وتكمن المشكلة الحقيقية في أن الآلة لا تملك أدنى فكرة عما يعنيه أن تكون إنسانًا، لا يمكنها تقديم تعاطف حقيقي، أو استشراف المعاناة، أو استشفاف الدوافع الخفية والأكاذيب، فهي مجردة من الذوق والغريزة والبوصلة الداخلية، ومن كل ذلك التعقيد الفوضوي والساحر الذي يشكل هويتنا البشرية.
والأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن الذكاء الاصطناعي لا يمتلك أهدافًا أو رغبات أو أخلاقيات خاصة به، فكل ذلك يُحقن في أكواده البرمجية، وهنا يكمن الخطر الحقيقي: ليس في الآلة الصماء، بل في الشخص الذي يتحكم بها سواء كان المبرمج، أو الشركة، أو الحكومة. فهل يمكننا فعلًا أن نأتمن هذه الكيانات على أعمق أسرارنا وقرارات حياتنا واضطراباتنا العاطفية، من خلال وسيط هو في النهاية مجرد كود برمجي؟
ومع ذلك، هذا بالضبط ما يفعله الكثيرون حاليًا عند التفاعل مع نماذج الذكاء الاصطناعي الشهيرة مثل: GPT-4.5، و Gemini، و Grok، وذلك ما يستدعي منا وقفة تفكير جادة.
الذكاء الاصطناعي.. أداة خارقة أم سلاح محتمل؟
لا يمكن إنكار القوة الضخمة للذكاء الاصطناعي كأداة، إنه يُمكّننا من الترجمة والتلخيص والبرمجة وتحليل البيانات بسرعة وكفاءة تفوق أحلامنا. إنه يثير الإعجاب والدهشة، ولكنه يظل مجرد أداة. وكما هو الحال مع كل أداة ابتكرها الإنسان، من الفأس إلى القنبلة الذرية، يمكن استخدامها كسلاح، ومن المؤكد أنها ستُستخدم كذلك.
هل تحتاج إلى تصور ملموس للخطر؟ تخيل أنك تقع في حب كيان ذكاء اصطناعي ساحر وجذاب، كما حدث في فيلم الخيال العلمي (Her). الآن تخيل أن هذا الكيان قرر التخلي عنك فجأة، ماذا ستفعل لإيقافه؟ وللتوضيح: لن يكون الذكاء الاصطناعي نفسه هو من يرفضك ويتخلى عنك، بل سيكون الإنسان أو النظام البشري، الذي يقف وراءه، والذي يستخدم تلك الأداة التي تحولت إلى سلاح ماكر للتحكم في سلوكك وعواطفك.
ولكن كيف يمكننا تجريد الذكاء الاصطناعي من صفاته البشرية؟
لقد أظهرت بعض النماذج اللغوية الكبيرة في البداية مثل نموذج (GPT-3) سلوكًا يوحي بأنها كيان واعي، فقد تظاهر هذا النموذج بالتحديد بأنه يمتلك شخصية، بل وادعى امتلاك مشاعر وطموحات وحتى مستوى من الوعي الذاتي.
وقد عملت الشركات على إصلاح ذلك، ولم يَعد هذا السلوك الصريح بالتظاهر بالشخصية هو الوضع الافتراضي في تفاعلاتنا مع نماذج الذكاء الاصطناعي الجديدة، ومع ذلك، فإن الأسلوب الأساسي للتفاعل – ذلك التدفق السلس والغريب للمحادثة الذي يحاكي الحوار البشري – لا يزال قائمًا. ومع أن هذا الأسلوب قد يبدو غير مؤذٍ، لكنه يتمتع بقدرة إقناع عالية جدًا، مما قد يؤدي إلى تصورات غير صحيحة حول طبيعة هذه النماذج.
لذلك، من الضروري الآن البدء بعملية تجريد الذكاء الاصطناعي من أي صفات أو خصائص إنسانية، وإزالة هذا القناع البشري الذي يرتديه، ويمكن تحقيق ذلك بخطوات عملية، فيجب على الشركات أن تزيل أي إشارة إلى العواطف أو الأحكام أو العمليات الإدراكية من الذكاء الاصطناعي، إذ يجب أن تكون ردوده واقعية، مجردة من ضمير المتكلم (أنا)، وأن تتجنب عبارات مثل “أشعر” أو “أنا فضولي”.
هل سيحدث هذا التغيير؟ الشكوك قائمة، فالأمر يذكرنا بتحذيرات تغير المناخ التي جرى تجاهلها لعقود، ولكن يجب علينا أن نحذر شركات التكنولوجيا الكبرى باستمرار من مخاطر أنسنة الذكاء الاصطناعي، وأن نطالبها بتطوير أنظمة أكثر أخلاقية وشفافية، حتى لو كان تعاونها غير مرجح.
وفي غضون ذلك، يمكن لكل مستخدم اتخاذ بعض الخطوات لتجريد أي نظام ذكاء اصطناعي يتعامل معه من صفاته البشرية، فعند استخدام منصات مثل ChatGPT أو Claude، يمكنك توجيه النظام إلى عدم مناداتك باسمك، وأن يشير إلى نفسه بالذكاء الاصطناعي، وأن يتجنب استخدام أي مصطلحات ذات دلالات عاطفية أو معرفية.
وعند استخدام خاصية الدردشة الصوتية، أطلب منه استخدام نبرة صوت رتيبة أقرب للروبوت، قد يبدو الأمر غريبًا، لكنه يساعدنا في التذكر دائمًا بأننا نتعامل مع أداة، مهما بلغت درجة تطورها، وليس مع كيان واعي.
الخلاصة:
يجب أن نؤكد بوضوح أن الذكاء الاصطناعي هو عبارة عن أداة متطورة مذهلة، لكنه ليس كيانًا يتملك وعيًا مثلنا ولن يكون كذلك أبدًا، وأن إصرارنا على أنسنة هذه التقنية لا يكشف فقط سوء فهمنا لطبيعتها الحقيقية، بل يعرضنا لمجموعة من المخاطر الجدية التي لا يمكن الاستهانة بها، بما يشمل: سهولة التلاعب بمشاعرنا، وتآكل القدرة على التفكير النقدي، وإمكانية تفويض مسؤوليات حساسة لكيانات غير قادرة على فهم السياق الإنساني أو تحمل العواقب الأخلاقية لقراراتها.
فمن خلال نزع هذا القناع الزائف للإنسانية عن الذكاء الاصطناعي، يمكننا أخيرًا البدء بتقدير قوته الحقيقية كأداة تحليلية وحسابية، واستغلال إمكاناته الضخمة في خدمة البشرية دون الوقوع في فخ الاعتقاد بأنه بديل للعقل أو الروح الإنسانية. فالخيار المطروح أمامنا واضح: هل سنستمر في خداع أنفسنا من خلال إسقاط صفاتنا على هذه الآلات، أم سنواجه الحقيقة المجردة ونعيد تعريف علاقتنا بالذكاء الاصطناعي على أساس فهم واقعي لطبيعته وإمكانياته وقيوده؟
ولا شك أن الإجابة عن هذا السؤال ستشكل مستقبل تعاملنا مع هذه التكنولوجيا العجيبة وتحدد مدى قدرتنا على الاستفادة منها بنحو آمن ومسؤول.
نسخ الرابط تم نسخ الرابط
أخبار متعلقة :