حمل ظهور أبو محمد الجولاني بعد السيطرة الكاملة على محافظة حلب في 29 نوفمبر الماضي أمام قلعة حلب التاريخية، صورة تبدو مختلفة عن أبو بكر البغدادي، الذي ظهر خطيبًا في النّاس بمسجد النوري بمحافظة الموصل العراقية قبل أكثر من 10 سنوات، وكان ذلك إعلانًا عن قيام دولة داعش في 29 يونية من العام 2014.
وفي الحقيقة ظهر الجولاني بزي أفرنجي مرتديًا بنطلون وقميص متواضعان، وسط جمع من النّاس، قد هيئ له، ثم خرج مخاطبًا القيادة السياسية في العراق، مطالبًا بعدم تدخل الحشد الشعبي وغيرها من المجموعات المسلحة في الحرب السورية، بينما استحسن سلوك دولة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، بما أسماه نأي العراق عن التدخل في الشأن السوري.
كان هناك ظهور آخر للجولاني، حيث خرج علينا وهو يمسك بهاتفه المحمول ويكتب تغريدة، مخاطبًا فيها العالم، وكأنه يُريد أنّ يقول أنني على تواصل مع العالم، وأنّ ثمة جسر لن ينقطع بعد استلائه على محافظات أخرى في سوريا.
أصدر أبو محمد الجولاني بيانًا يُطمئن فيها سفارات الدول الأجنبية، كما أنه طمئن الأقليات الموجودة في المناطق التي سماها بالمحررة، وطمأن هذه الأقليات في المحافظات التي لم تُحرر بعد، وفق مفهومة، والدلالة الأهم في تقديري، أنّ الرجل مهر بياناته بإسمه الحقيقي أحمد الشرع، وليس أبو محمد الجولاني، وكأنه يُعلن عن نفسه من جديد.
ولعل دعوته إلى حل هيئة تحرير الشام، هي الفكرة الأهم والأخطر لفهم شخصية الجولاني، واستيضاح خلفياتها التي تبدو مختلفة بطبيعة الحال عن أبو بكر البغدادي، وأيمن الظواهري ومن قبل أسامة بن لادن، وغيرها من قيادات الحركة الجهادية.
شخصية الجولاني تتمتع بذكاء شديد، ذكاء اجتماعي وعسكري، فهو الأطول عمرًا بين قيادات الحركة الجهادية التي كان جزءًا منها ومازال رغم التنصل الدائم برسائله الأخيرة، وهنا أقصد داعش والقاعدة، فقد كان موفدًا لأبو عمر البغدادي، ثم أبو بكر البغدادي، وبعد ذلك أيمن الظواهري ومن قبل أسامة بن لادن قبل أنّ يُقتل الأخير.
فقد استطاع أنّ يتكيف مع الظروف الدولية، بمعنى أنه لم يتم استهدافه، وبات يظهر في لقطات عامة وسط المحافظات التي سيطر عليها، ومن قبل كان يُقيم في محافظة إدلب، وكان معلومٌ مكانه، ولم يستهدفه أحد، بخلاف قيادات الحركة الجهادية الذين أشرنا إليهم، رغم أنّ واشنطن طالبت برأسه مقابل عشرة آلاف دولار!
فضلًا على أنّ رسائل الرجل لم تتوقف يومًا، فقد قام بفك ارتباطه سريعًا مع تنظيم داعش، وبنى صلات مع تنظيم قاعدة الجهاد، وعندما وضعت الجماعة على قوائم الإرهاب الأمريكية وفرضت عليه عقوبات، سريعًا ما فك ارتباطه بهذا التنظيم، وحاول إقناع الأمريكان وغيرهم بأنه حركة معارضة سورية مشكلّة من سوريين فقط ولا يوجد أجانب بينهم.
وهنا غير اسم الحركة من جبهة النصرة إلى هيئة فتح الشام وهيئة النصرة ثم هيئة تحرير الشام، وهي النسخة الأخيرة والتي يدعى فيها بأنها حركة سورية معارضة، وخف كثيرًا من لحيته، وعرض حل الهيئة بعد أنّ تُحقق أهدافها في إسقاط الرئيس السورية والاستيلاء على كل المحافظات السورية، وهذه كلها إغراءات للولايات المتحدة الأمريكية وبعض الأطراف الإقليمية.
دعونا نتفق أنّ شخصية الجولاني برجماتية تبحث عن مصالحها وسط دعم إقليمي ودولي، ولعل الأطراف الداعمة هي من رسمت له الخريطة ودفعته لاتخاذ الخطوات المشار إليها، حتى يكسب الرأي العام السوري والعربي والدولي أيضًا، وكأنه يُريد أنّ يُصدر للعالم أنه الشخصية التوافقية التي يبحثون عنها بديلًا عن الرئيس بشار الأسد.
سوف يقوم الجولاني بحل هيئة تحرير الشام بالفعل، وسوف ينجح في السيطرة على حمص ولكنه سوف يجد مناعة شديدة في الوصول إلى العاصمة دمشق، لا أحد يستطيع أنّ يتكهن بالمستقبل، لأنه مرتبط بإرادة المواقف الإقليمية والدولية، ولكن الرجل يتنازل من أجل أنّ يكسب ثقة الجميع فيكون البديل الذي يبحثون عنه.
وإذا حدث فسوف تتجه المنطقة إلى مستقبل غامض، وهنا لا أتحدث عن سوريا فقط، ولكن هذا سوف يؤثر على أمن العالم بأكمله، فهناك من يسعى لأفغنة سوريا وخلق بؤرة إرهاب بداخلها سوف يُعاني منها العالم، بحيث تُصبح خزان الجماعات المتطرفة لسنوات طويلة.
وهنا على العالم أنّ يُدرك المصلحة العليا، وأنّ يُبدل خياراته وفق هذه المصلحة، صحيح وقع النظام السوري في أخطاء كبيرة وكثيرة، ولكن هذا ليس معناه أنّ يكون البديل التنظيمات المتطرفة ذات الخلفية الإسلاموية، وهنا لابد أنّ يكون التأييد للدولة السورية، الدولة الوطنية وليس للنظام السوري، الهدف أنّ تبقى سوريا وأنّ تظل المنطقة العربية على نفس هدوئها، والحقيقة هي على براميل متفجرة وليست فقط قابلة للإنفجار.
0 تعليق