لا يَقِفُ لبنانُ عِندَ أبوابِ آسيا وأوروبا وإفريقيا، وَلا عِندَ الأطرافِ الوجودِيَّةِ كَمَن عَلى هامِشِ نِهايَةِ النِهاياتِ.
لبنانُ شاهِدٌ. مِن هُنا إستِثنائِيَّتُهُ. حينَ الإمبراطورِيَّاتُ المُرِكَبَةُ فالمُتَحَلِّلَةُ، مِن حَولِهِ، تَستَجدي الجُغرافيا نَشوَةَ تَسَيطُرٍ، هو يَنتَشي في جُغرافِيَّتِهِ الواحِدَةِ، المُوَحَّدَةِ، الثابِتَةِ، في تَعَملُقِ التَعَبقُرِ. تِلكَ الإمبراطورِيَّاتِ تَنمو فِطرِيَّاتٍ مِن هُنا وَهُناكَ، قَبلَ أن تَتَشَلَّعَ فَتَندَثِرَ مِن إفراطِ حَلَقاتِها المُقفَلَةِ على عُبودِيَّاتِ الفَرضِ وَغَورِ الخَوفِ وَعَصفِ المَصائِرَ بإستِحكامِ المَوتِ، وَحدَهُ لبنانُ يُنقِذُ الزَمَنَ بالشَهادَةِ. بِلُحمَةِ التاريخِ وَوِحدَةِ الإنسانِ.
لبنانُ يَشهَدُ. مِن هُنا أبَدِيَّتُهُ. حينَ الإمبراطورِيَّاتُ المُصطَنَعَةُ مِن حَولِهِ تُراكِمُ الجُغرافيا تَسطيحاً لِأُفولٍ آتٍ مِن حَتمِيَّتِها، هو يُراكِمُ الإرتِقاءَ بالتاريخِ الى الصَخَبِ المُخاطِرِ والتَفاعُلِ الجَريءِ.
لبنانُ شَهادَةٌ. مِن هُنا فَرادَتُهُ. حينَ الإمبراطورِيَّاتُ المُتَناتِشَةُ مِن حَولِهِ تَستَمطِرُ عَبَثِيَّاتِ السُدى وَهَدرِ المَعاصِيَ، وَحدَهُ هو لِلحَقِّ، وَبِالحَقِّ. حَتَّى حينَ يَستَشهِدُ، لا يَهرَعُ لِخِفيَةٍ وَلا يَتَلَطَّى خَلفَ سِرٍّ. قَضِيَّتُهُ، عَلى هَديرِ التاريخِ، مُذ كانَ التاريخُ فِعلاً، أن يَكونَ لِإستِشهادِهِ مِعنَىً.
لِأنَّهُ كَذَلِكَ، كانَ المِعنى، كُلَّ المِعنى، الذي أرساهُ وَوَطَّدَهُ، هو مِعنى الحَياةِ. كُلِّ حَياةٍ، وَكُلِّ الحَياةِ.
هو الواقِفُ أبَداً أمامَ ذاتِهِ، وَجُغرافِيَّاتِ التاريخِ المُتَفَلِّتَةِ بَينَ التَوَسُّعِ والتَهاوي، والكائِناتِ.
أهوَ مُستَوعِبٌ الحَياةَ الحافِظَةَ؟ بَلِ الحافِظُ الوجودَ حِفظاً مُستَنبِطاً لِتَألُّقِ الحَياةِ. كُلِّ حَياةٍ وَكُلِّ الحَياةِ.
ألا فانظُر عَوالِمَ اليَومِ المُتَناثِرَةِ مِن إفرازاتِ إمبراطورِيَّاتِ التَعَسُّفِ وَتَركيباتِ العَرَضِ كَيفَ تَستَثمِرُ في إقرارِ قَوانينَ إلغاءِ الحَيَواتِ تَحتَ سَتائِرَ: "المَوتِ الرَحيمِ" أوِ "المَوتِ الهانِىءِ" أوِ "الإنتِحارِ المَتَعاضَدِ"... وَغَيرِها مِن بَراءاتِ الخُضوعِ لِلاثَقافاتِ المَوتِ، وَتَلَبُّسِها لُبوسَ إحتيازِ القَرارِ الجَسَدِيِّ-الذاتِيِّ.
أوَتَستَغرِبُ، وَنُزوعُها تِلكَ الإمبراطورِيَّاتِ واحِدٌ أحَدٌ: المَوتُ، تَرتيباً وَفَرضاً. عُنوَةً وَبِالمُحاكاةِ. إنتِهاكاً لِحَقيقَةِ الحَقِّ بِتَعَمُّدِ الإنحِرافاتِ وَتَقَصُّدِ الإنكاراتِ.
انتروبولوجيا الكَينونَةِ
لبنانُ الشاهِدُ لِحَقِّ الإنسانِ، هو الشاهِدُ لِهَكَذِيَّةِ الكَينونَةِ الإنسانِيَّةِ، لا لِإعلانِ ماهِيَّتِها فَحَسبَ. وَشَهادَتُهُ الشَهادَةُ قِوامُها أنَّ الإنسانَ في ذاتِهِ هو هَكَذا: إنسانِيَّةٌ تامَّةٌ لِأنَّها مِنَ الأُلوهَةِ-خالِقَتِها وإلَيها-باعِثَتِها لِما بَعدَ المَوتِ. كُلِّ مَوتٍ وَكُلِّ المَوتِ.
أجَل! مُعضِلَةُ لبنانَ أنَّهُ الوَحيدُ الحامِلُ، مِن شَهادَتِهِ-الشَهادَةِ، وَلِأجلِها، انتروبولوجيا الكَينونَةِ الإنسانِيَّةِ، بالحَياةِ، حينَ الإمبراطورِيَّاتُ المُخضِعَةُ-البائِدَةُ الإنسانَ، وَبَقاياها-الشَظايا، تُؤَطِّرُ تِلكَ الكَينونَةَ في ظَلامِيَّاتِ اللابَقاءِ بِمُغالاةِ مُخادَعاتِ البَغيِ الكَلامِيِّ والدَناءَةِ الخُلُقِيَّةِ والقَونَنَةِ النِفاقِيَّةِ، المُتَباهِيَةِ إستِعلاءً بِهَذَيانِ التَحَرُّرِ وَمُراءاةِ الحُرِيَّةِ... لا لِهَدَفٍ سِوى عَجَلَةِ إلغاءِ الإنسانِيَّةِ، بَعدَ غَلَبَةِ إلغاءِ الأُلوهَةِ، لِدَيمومَةِ تَسَلُّطِ جُغرافِيَّاتِ الإنكارِ على نَفَسِ التاريخِ.
أجَل! مَسؤولِيَّةُ لبنانَ، أنَّهُ الوَحيدُ الواقِفُ، حينَ التَداعي فالسُقوطُ باتا القاعِدَةَ. حينَ الإنسانِيَّةُ باتَتِ الضَحِيَّةَ لِعُنفٍ هاجِمٍ بالمِسخِ، بالتَحريفِ.
فَليَكُن لبنانُ-الشاهِدُ واقِفاً لا لِلإستِنطاقٍ بَل وَلِحِفظِ أخِصَّائِيَّةِ الكَينونَةِ في ما هي انتروبولوجيا أيّ مَسيرَةٌ وإنتِظامٌ. وجودٌ إنسانِيٌّ مُحَدَّدٌ وَمُمَيَّزٌ.
فَليَكُن لبنانُ-الشَهادَةُ وثوقاً بِأنَّ الكَينونَةَ الانتروبولوجِيَّةَ الإنسانِيَّةَ زاخِرَةٌ، بالجَسَدِ البَشَريِّ والمَضمونِ البَشَريِّ. وَفي ذَلِكَ، كانَت وَتَبقى عَصِيَّةُ على إستِفرادِ الظَلامِيَّاتِ بِحَقِّ الوجودِ وَوجودِ الحَقِّ.
أجَل! لبنانُ-الشاهِدُ-الشَهادَةُ، المَجبولُ بِالإنسانِ، المُريدُ العارِفُ... مُنذُ أدونيسَ الإنسانِ-المَألوهِ الغالِبِ المَوتَ، هو الصارِمُ في المُعطى والمَغزى والمَآلِ. هو، وَهذا ثالوثُهُ، أحَقِيَّةُ حَقيقَةِ الوجودِ. هو كيانِيَّةُ الانتروبولوجيا، مِنَ الميتافيزيقيا الى ما بَعدَ الإنسانِيَّةِ. مِن ما قَبلَ الجُغرافيا الزَمَنِيَّةِ الى ما بَعدَ زَمَنِيَّاتِ التاريخِ.
أيُّ مُطلَقٍ؟! بَل كُلُّ المُطلَقِ!
0 تعليق