يسود انطباع لدى البعض أن المصريين “يكرهون” الاستثمار، أو على الأقل لا يثقون فيه، ويتجسد ذلك في ردود الأفعال السلبية المتكررة تجاه طرح أصول الدولة أمام القطاع الخاص أو دخول مستثمرين أجانب في مشروعات كبرى، حيث يُنظر إلى هذه الخطوات غالبًا باعتبارها “تفريطًا” أو “بيعًا لممتلكات الشعب”.
هذا الانطباع لا يأتي من فراغ، بل يرتبط بمجموعة من العوامل الثقافية والاجتماعية والتاريخية المتشابكة، فقد شهدت مصر تقلبات اقتصادية واجتماعية أثّرت على نظرة المواطنين تجاه الاستثمار، ورسّخت نوعًا من التشويش في رؤية المصريين للاستثمار وكيفية الترقي الاجتماعي.
في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، شهدت مصر صحوة وطنية صاحبها بناء لاقتصاد وطني بقيادة طلعت حرب وغيره من رجال الأعمال، الذين رسّخوا لفكرة “الرأسمالية الوطنية” من خلال تأسيس العديد من الشركات والمصانع. لاحقًا، جاءت فترة التأميم في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، حينما تبنت مصر سياسات اشتراكية بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر، وتم تأميم العديد من الشركات والمؤسسات الخاصة.
هذه السياسات، رغم أنها سعت لتحقيق العدالة الاجتماعية، إلا أنها أدت إلى تقليص دور القطاع الخاص، حيث أصبحت الدولة هي المحرك الرئيسي للاقتصاد.
اقرأ أيضا: مؤمن سليم يكتب: البورصة والذكاء الاصطناعي.. بين التطور والتحديات
ومع انتقال مصر إلى سياسات الانفتاح الاقتصادي في عهد الرئيس أنور السادات في السبعينيات، بدأت الفرص الاستثمارية تظهر مجددًا. ومع ذلك، كانت هذه المرحلة – كما في تجارب دولية مماثلة – مصحوبة بتحديات مثل الفساد والبيروقراطية، ما ساهم في ترسيخ صورة سلبية عن الاستثمار، ودفع الكثير من المصريين لتفضيل الاحتفاظ بمدخراتهم في أوعية أكثر أمانًا مثل الودائع البنكية أو العقارات أو الذهب، أو حتى في أشكال غير قانونية مثل شركات توظيف الأموال “المستريح”.
يضاف إلى ذلك دور بعض التيارات التي عملت على تشويه صورة الاستثمار والمستثمرين، وساعدها في ذلك الإنتاج الإعلامي والثقافي في الثمانينيات والتسعينيات، حيث ارتبطت كلمات مثل “الخصخصة” و”البيع” بخطاب تحذيري في الإعلام والسياسة، خاصة بعد تجارب الخصخصة في التسعينيات التي شابها الفساد وتصفية شركات ناجحة بأسعار زهيدة، مما عزّز من فقدان الثقة في نوايا المستثمرين.
كما أن تجارب بعض المستثمرين السلبيّة ساهمت في تشويه الصورة؛ فقد شهدت السوق المصرية حالات دخول مستثمرين ثم انسحابهم بعد تحقيق مكاسب سريعة، أو تركهم للعمال دون حقوق، مما كرّس صورة نمطية للمستثمر كـ”انتهازي” أو “مستغِل” لا كشريك في التنمية.
وعلى الرغم من الإصلاحات الاقتصادية مثل تحرير سعر الصرف عام 2016، وتحديث التشريعات لتشجيع الاستثمار، والجهود الحكومية المبذولة لجذب الاستثمارات؛ ما زال هناك تردد بين المواطنين.
كما أن مفاهيم مثل “عائد الاستثمار”، و”رأس المال الإنتاجي”، و”الدورة الاقتصادية” لا تزال غائبة عن وعي شريحة كبيرة من المواطنين، مما يجعل من السهل أن تتحوّل أي نشاطات استثمارية إلى موضوع للريبة والشك.
لكن هناك مؤشرات على وجود حراك استثماري متزايد، سواء على مستوى الدولة أو الأفراد. فقد أطلقت الحكومة المصرية في السنوات الأخيرة عددًا من المشروعات القومية الكبرى، والمناطق الصناعية، بشراكات مع مستثمرين محليين وأجانب.
كما ارتفع عدد الشركات الناشئة في مصر، خاصة في مجالات التكنولوجيا المالية والتعليم الرقمي. وبلغ حجم الاستثمارات في الشركات الناشئة أكثر من 500 مليون دولار عام 2023، ما جعل مصر من أبرز وجهات الاستثمار في إفريقيا. كما ظهرت طبقة جديدة من المستثمرين الأفراد في البورصة، والعقارات، والعملات الرقمية، وهو ما يعكس تحولًا نسبيًا في الثقافة الاستثمارية، خاصة بين الشباب.
اقرا أيضا: مؤمن سليم يكتب: اقتصاديات التقاضي والرسوم القضائية
وعند مقارنة الحالة المصرية بتجارب دول مثل سنغافورة، وكوريا الجنوبية، والصين، وإقليميًا مع دول مثل الإمارات والسعودية، نلاحظ أن هناك ثقافة أكثر انفتاحًا في هذه الدول وتقبّلًا للاستثمار، بفضل سياسات واضحة لتحفيز رؤوس الأموال، وتواصل فعّال بين الدولة والمواطن لشرح الأهداف والمكاسب.
الخطاب العام في تلك الدول يدعم الاستثمار كركيزة للتنمية، وتُظهر هذه التجارب أن الثقافة الاستثمارية يمكن بناؤها من خلال الاستقرار الاقتصادي، والوضوح في السياسات.
لا يمكن القول إن المصريين “يكرهون” الاستثمار، بل إن الموقف الحالي ناتج عن تراكم طويل من الشكوك والتجارب السلبية، في مقابل جهود حكومية حقيقية لتغيير هذا الانطباع وبناء بيئة داعمة للاستثمار.
المطلوب اليوم ليس فقط تحسين مناخ الاستثمار، بل العمل على إعادة بناء الثقة الشعبية عبر تعزيز الشفافية، وتقديم نماذج ناجحة يشعر المواطن بثمارها، ومواجهة الخطابات الشعبوية التي تخلط بين الاستثمار والبيع. فعندما يرى المواطنون أن الاستثمار لا يعني التفريط، بل الشراكة في البناء، ستتغير الصورة.
ويمكن تحقيق ذلك من خلال نشر الثقافة الاستثمارية، وإتاحة الأدوات الاستثمارية لكافة الأفراد، وتسليط الضوء على حجم ودور القطاع الخاص في التنمية في مصر، وعدد الوظائف التي يوفرها، والمساهمات المجتمعية التي تقوم بها تلك الشركات في تحسين جودة حياة المواطنين. كما قد يكون لإعلان مؤشر نصف سنوي من قبل وزارتي الاستثمار والتضامن الاجتماعي حول هذه المساهمات أثر إيجابي في تحسين صورة الاستثمار لدى المواطنين.
0 تعليق