في الشكل، فتحت زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى لبنان باب "إقفال" ملف السلاح الفلسطيني داخل وخارج المخيّمات، حتى إنّ هناك من فسّر الزيارة الأولى من نوعها منذ العام 2017، على أنّها "غطاء فلسطيني رسميّ" للدولة اللبنانية من أجل المضيّ بالأمر، بما ينسجم مع الشعار الذي أطلقه "العهد" منذ انطلاقته، ممثّلاً برئيسي الجمهورية جوزاف عون، والحكومة نواف سلام، على مستوى "حصر السلاح بيد الدولة اللبنانية".وبالفعل، جاء مضمون الزيارة ليؤكد على هذا الانطباع الأولي، إذ خرجت القمّة التي عقدت بين عون وعباس فور وصول الأخير إلى لبنان، ببيان واضح لا يحتمل اللبس، شدّد على التزام الرئيسين "بمبدأ حصرية السلاح بيد الدولة اللبنانية، وإنهاء أي مظاهر خارجة عن منطق الدولة اللبنانية، كما على أهمية احترام سيادة لبنان واستقلاله ووحدة أراضيه"، مع تأكيد الجانب الفلسطيني على "التزامه بعدم استخدام الأراضي اللبنانية منطلقاً لأي عمليات عسكرية".وتكرّر المضمون نفسه تقريبًا في اليوم التالي بعد اللقاء الذي جمع عباس مع رئيس الحكومة، حيث توافقا على "إقفال ملف السلاح الفلسطيني خارج المخيمات أو داخلها بشكل كامل، لتحقيق حصر السلاح بيد الدولة"، وذهبا أبعد من ذلك، باتفاق على "وضع جدول أعمال واضح لتنفيذ آلية حصر السلاح بيد الدولة بما فيه السلاح داخل المخيمات"، وفق ما أعلن سلام.لكن، أبعد من "الغطاء الرسمي" الذي يمكن أن يكون عباس قد قدّمه للدولة اللبنانية في هذا السياق، هل يمكن القول فعلاً إنّ "قطار" سحب السلاح الفلسطيني قد وُضِع على سكّة التنفيذ، وماذا عن موقف حركة حماس وسائر الفصائل التي لا يعبّر عنها عباس بالضرورة، والتي قد تكون معنيّة أكثر منه بالملفّ، علمًا أنّها كانت قد تجاوبت مع "التحذير" الذي وجّهته لها الدولة اللبنانية عبر المجلس الأعلى للدفاع قبل فترة على خلفية حوادث إطلاق الصواريخ؟.لا شكّ بدايةً أنّ ملف السلاح الفلسطيني ليس جديدًا أو طارئًا، فهو لطالما كان مطروحًا في الأوساط السياسية الداخلية، منذ سنوات طويلة، حتى إنّ قرارًا واضحًا اتُخِذ على طاولة الحوار التي التأمت في العام 2006، بضبطه وتنظيمه في المخيّمات، مع سحبه بالمطلق من خارجها، ولكنّه بقي حينها "حبرًا على ورق"، خصوصًا بعدما جاءت حرب تموز، وأطاحت بكلّ نقاشات ومقرّرات طاولة الحوار في ذلك الوقت.وبعد العام 2006، أثير الملف مرارًا وتكرارًا، خصوصًا مع تحوّل المخيمات الفلسطينية في مكانٍ ما، إلى "ساحة" حروب وصراعات تتجدّد بين الفينة والأخرى، يبقى بعضها محصورًا بين الفصائل الفلسطينية، ويمتدّ بعضها إلى الخارج، كما حصل مثلاً في حرب نهر البارد، علمًا أنّ جزءًا من أسبابها أيضًا أن المخيّمات أضحت ملاذًا للمطلوبين والهاربين، وكأنّها أصبحت "دولة داخل الدولة"، يُمنَع على الأجهزة الشرعيّة الدخول إليها.ومع المتغيّرات الكبرى التي شهدتها المنطقة في الآونة الأخيرة، في أعقاب الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وما تفرّع عنها من "حرب إسناد" فُتِحت من الجبهة اللبنانية، ودخلت على خطّها الفصائل الفلسطينية، بما في ذلك "كتائب القسام"، الجناح العسكري لحركة حماس، أعيد طرح الملف، ليفرض نفسه بعد اتفاق وقف إطلاق النار، الذي التزم به لبنان عبر "حزب الله"، فتمّ خرقه فلسطينيًا، ما أثار الكثير من التساؤلات.وأبعد من كلّ ذلك، يقول البعض إنّ ملف السلاح الفلسطيني يُطرَح في سياق "المشهد الجديد" الذي يرتسم في المنطقة بالمُطلَق، فالخسائر التي مني بها ما يسمّى بالمحور، بدءًا من حركة "حماس" في غزة، إلى "حزب الله" في لبنان، مرورًا بنظام الأسد في سوريا، كان لا بدّ أن ينعكس على وضع السلاح، علمًا أنّ هناك من يرى أنّ حركة "حماس" مثلاً كانت تستند إلى "غطاء" يوفّره لها "حزب الله"، الذي بات في وضعٍ لا يُحسَد عليه اليوم.وفي السياق نفسه، يطرح البعض فرضيّات أخرى، إذ من غير المنطقيّ ولا الواقعيّ أن يُطرَح مثلاً سلاح "حزب الله" على طاولة البحث، ويصرّ رئيس الجمهورية وغيره من المسؤولين على أن العام الحالي سيشهد سحبه، بمعزل عن موقف الحزب المُعلَن من الموضوع، ويوضَع السلاح الفلسطيني جانبًا، أو حتى يؤجَّل البحث به، فالأوْلى هو سحب السلاح الفلسطيني أولاً، ولو أنّ هناك من يتحدّث عن "ترابط" بين الأمرين بصورة أو بأخرى.وبالانتقال من "النظري" إلى "العملي" إن صحّ التعبير، ثمّة علامات استفهام تُطرَح عمّا إذا كانت الطريق مفتوحة فعلاً أمام "إقفال" ملف السلاح الفلسطيني في لبنان بصورة نهائية وجذرية، أم أنّ العوائق أمامها لا تزال كثيرة، والأهمّ عمّا إذا كان "غطاء" محمود عباس كافيًا فعلاً لمعالجة الموضوع، أم أنّ المطلوب من الدولة اللبنانية أن تدقّ أبوابًا أخرى من أجل ذلك، بينها أبواب "حركة حماس" وسائر القوى والفصائل الفلسطينية؟.الأكيد بحسب ما يقول العارفون، أنّ الأمر ليس بهذه السهولة، وأنّ الاعتقاد بأنّ زيارة عباس كافية لإنهاء الجدل لا يبدو واقعيًا، علمًا أنّ الدولة قد اجتازت شوطًا على هذا الصعيد، مع إعلان الجيش اللبناني تسلّمه ستة مراكز عسكرية للجبهة الشعبية -القيادة العامة وفتح الانتفاضة خلال الأشهر الماضية، في وقتٍ لا يزال السلاح داخل المخيمات إشكاليًا على أكثر من صعيد، ولا سيما أنّه غير منظّم، ما من شأنه "تعقيد" العملية أكثر وأكثر.ويقول العارفون إنّ الأمر سيحتاج إلى حوار فلسطيني-فلسطيني بالدرجة الأولى، وحوار لبناني-فلسطيني شامل بالدرجة الثانية، وهو حوار لا يمكن أن يقتصر على فصيل فلسطيني دون آخر، علمًا أنّ عباس ولو كان وصفه "الرئيس الفلسطيني"، إلا أنّه لا يمون على كلّ القوى الفلسطينية، التي تعتبر أنه يمثّل السلطة في رام الله حصرًا، من دون أن ننسى أنّ العلاقة بينه وبين حركة "حماس" عاطلة، وهو ما تجلّى بوضوح شديد في أحد خطاباته الأخيرة.وإذا كان الانطباع السائد بأنّ وضع السلاح الفلسطيني سيتغيّر حتمًا، في ضوء التغييرات التي تطرأ على المشهد العام في المنطقة برمّتها، فإنّ هناك من يعتقد أنّ الجانب الفلسطيني سيستغلّ الفرصة، لطرح ملف المخيمات ككلّ، كنوع من "مقايضة" ربما، علمًا أنّ تحسين الظروف المعيشية للاجئين قد يكون "مصلحة مشتركة" للجانبين اللبناني والفلسطيني، مع ضمان احترام السيادة اللبنانية والالتزام بالقوانين اللبنانية.في النتيجة، قد تكون زيارة عباس فتحت الباب أمام نقاش السلاح الفلسطيني، الذي خرج من دائرة "المحظورات" كما غيره، إلا أنّ الأكيد أنّ الأمر أبعد من مجرّد زيارة، وأبعد من مجرد قرار، فالمطلوب مقاربة جدّية ومسؤولة تفضي إلى "ثورة ذاتية" على واقع المخيمات، وتصوّب صورتها، ولا تتسبّب في مكانٍ ما، نتيجة اندفاع من هنا، أو حماس من هناك، إلى صراع جديد، يعيد إلى الأذهان صراعات سابقة، عُرِفت بـ"حروب الآخرين على أرضنا"!.