أثار مشهد بثه التلفزيون الرسمي التونسي بدى فيه الرئيس قيس سعيّد واقفا على كرسي أثناء إشرافه على مراسم تعيين والٍ جديد، موجة من التهكم والسخرية على مواقع التواصل الاجتماعي، متجاوزا حدود الطرافة العابرة إلى نقاش أكثر عمقا حول طبيعة السلطة ومظاهرها في تونس اليوم، حيث اعتبر البعض أن وقوف رئيس الدولة، بشكل متعمد، على قطعة أثاث مخصصة للجلوس، وأمام مسؤول إداري يمثل الدولة في إحدى جهاتها، يقرأ على أنه رسالة تتجاوز الشكل إلى مضمون سياسي واجتماعي مثير للقلق، يغذي الانطباع المتزايد بأننا أمام تصور مقلوب للعلاقة بين الدولة ومواطنيها، بين الهيبة والمؤسسة، وبين المنصب ومن يشغله. ولا يمكن اختزال ما جرى في مجرد زلة بروتوكولية أو لحظة عفوية، كما حاول البعض تفسيره بسذاجة أو تبرير سلوكه بطريقة فلكلورية، بل إن الوقوف على الكرسي، في قلب مشهد رسمي، يبدو أقرب إلى فعل استعراضي مقصود، يندرج ضمن سلسلة من الإيماءات الرمزية التي دأب الرئيس سعيد على اعتمادها منذ وصوله إلى قصر قرطاج، والتي تعكس انسلاخه المتزايد عن منطق الدولة الحديثة، وافتتانه المتكرر بشعارات الحرب ضد “المؤامرات” و”الخونة” و”أعداء الوطن” الذين لا يسميهم. ولم يكن سعيّد، في هذا المشهد الغريب، يخاطب الوالي الجديد، ولا حتى التونسيين من خلال التلفزيون الرسمي، بل كان يخاطب نفسه، ضمن سردية باتت مألوفة تعيد إنتاجها خطاباته المتكررة في المناسبات الرسمية وغير الرسمية، وهي سردية البطل الوحيد الذي يعرف الحقيقة، في مواجهة شعب مغرر به، ومؤسسات يفترض أنها مخترقة، ومنظومة لم يعد يرى فيها سوى الفساد والانهيار، كما أن المفارقة تكمن في كون هذا البطل لا يتردد في إفراغ تلك المؤسسات نفسها من معناها، كلما أتيحت له الفرصة، سواء من خلال القرارات الفردية أو من خلال هذا النوع من المشاهد الرمزية الغريبة. ولم يكن رد الفعل الشعبي، كما ظهر في مئات التعليقات الساخرة والصور المترجلة على “الفيسبوك”، تهكما من غرابة المشهد فقط، بل تعبير عن ضجر عميق من أسلوب حكم بدأ يترجم عمليا إلى انسداد سياسي واقتصادي واجتماعي، حيث فهم التونسيون، على طريقتهم، أن وقوف الرئيس على الكرسي هو وقوف فوق الدولة، لا لأجلها، وأن الرسالة الأعمق هي أن النظام السياسي بات يتصرف خارج منطق المؤسسات، مكتفيا باستعراضات شكلية تغطي على فراغ محتواه. ولا يحتاج سعيد إلى الوقوف على كرسي ليقول إنه مختلف، أو ليظهر رفضه للطرق التقليدية في الحكم، حيث صار اختلافه واقعا ملموسا في حياة التونسيين اليومية، من تدهور القدرة الشرائية إلى انسداد أفق الأمل لدى الشباب، ومن هشاشة الإدارة إلى تصدع صورة الدولة ذاتها، أما خرجته الأخيرة، فقد أضافت مشهدا جديدا إلى ألبوم طويل من الإشارات الشعبوية التي لم تعد تثير الإعجاب بقدر ما تثير السخرية، وربما الشفقة على مؤسسة الرئاسة حين تنزلق إلى مستوى هذا النوع من الأداء المسرحي البائس.