معجزات النمو التي حققتها الصين وكوريا الجنوبية وتايوان.. يصعب تكرارها
في ظل تزايد الحديث عن انحسار العولمة، تسعى اقتصادات الدول النامية جاهدة لوضع استراتيجيات جديدة للنمو، بعدما بدا أن المسار التقليدي الذي ارتكز على التصنيع الموجه نحو التصدير والقائم على العمالة غير الماهرة أصبح مسدوداً.
هذا النموذج الذي ساعد سابقاً في نهضة اقتصادات مثل كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة والصين وفيتنام، لم يعد متاحاً كما كان للدول في جنوب آسيا وإفريقيا جنوب الصحراء.
ما جعل هذا النموذج فعالاً تاريخياً هو اعتماده على التصدير، إذ أتاح للدول فرصة الاستفادة من الطلب العالمي غير المحدود، وتحرير نفسها من ضيق الأسواق المحلية.
كما أن التصدير عزز كفاءة جانب العرض، واعتماده على العمالة غير الماهرة جعل فوائد النمو موزعة على نطاق واسع.
ميزة أخرى مهمة لهذا النموذج كانت توافق مكاسب الإنتاجية مع وفرة الموارد البشرية، وذلك بفضل مبدأ “التعلم بالممارسة”، ما مكن الدول من رفع الكفاءة تدريجياً ضمن القطاعات القائمة والتدرج نحو صناعات أكثر تعقيداً، فكان النمو سريعاً وشاملاً ومستداماً.
لكن هذا الواقع تغير، أو هكذا يبدو.
ومع تصاعد النزعات الحمائية وتراجع العولمة، برزت استراتيجيتان بديلتان للتنمية، بحسب موقع “بروجكت سنديكيت”.
الأولى طرحها روهيت لامبا وراجورام راجان، وتقترح أن تركز الدول النامية، وعلى رأسها الهند، على الخدمات القابلة للتصدير التي تعتمد على المهارات.
رغم احتفاظ هذه الاستراتيجية ببعض مزايا نموذج التصنيع، مثل الاستفادة من الطلب العالمي وتعزيز الكفاءة، فإن أبرز عيوبها أنها لا تشمل سوى نسبة ضئيلة جداً من القوى العاملة.
فحتى في الهند، التي تُعد النموذج الأوضح لهذا التوجه، لم تتجاوز نسبة العاملين في القطاعات المهارية والقابلة للتصدير %2.5 من إجمالي القوى العاملة بحلول عام 2024.
وبالنسبة لمعظم الدول الفقيرة التي تعاني نقصاً في العمالة الماهرة، تبدو هذه الاستراتيجية غير واقعية، بل وقد تُفاقم التفاوت الاجتماعي بدلاً من تحقيق الشمول الاقتصادي.
الاستراتيجية الثانية التي طرحها داني رودريك وروهان ساندو، ترى أن نافذة التصدير المعتمد على العمالة بدأت تضيق، وأن التقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي والأتمتة ستُضعف من قدرة قطاع التصنيع على توليد الوظائف.
وبدلاً من ذلك، يدعون إلى تحسين الإنتاجية في قطاع الخدمات غير القابلة للتداول.
ونظراً لتمركز النشاط الاقتصادي والتوظيف في الدول النامية داخل هذه القطاعات، فإنهم يرون فيها طريقاً أكثر شمولاً للنمو.
لكن لهذه الاستراتيجية حدودها.
أولاً، التقنيات الحديثة قد تؤدي إلى إزاحة العمال في قطاع الخدمات غير القابلة للتداول تماماً كما تفعل في قطاع التصنيع.
وثانياً، تُظهر الدراسات أن هذه الخدمات ليست كلها منخفضة المهارة. فقطاعات مثل الاتصالات والتمويل والعقارات تتطلب مهارات عالية، بينما القطاعات الأقرب لغير المهرة، مثل تجارة التجزئة ورعاية المسنين، تفتقر إلى فرص حقيقية للنمو في الإنتاجية.
هذه الظاهرة المعروفة بتأثير “باومول” تعني أن الخدمات غير القابلة للتداول لن تصبح محركاً للنمو الشامل والمستدام كما كان التصنيع.
ورغم وجود استثناءات كالبناء والسياحة، وهي قطاعات كثيفة العمالة، إلا أن مكاسبها الإنتاجية عادة ما ترتبط بتقنيات تُقصي العمالة، مما يحد من دورها في التنمية الشاملة.
أين يترك هذا الدول النامية؟
المفاجأة أن استراتيجية التصنيع ما زالت ممكنة، وإن كانت أقل فعالية، إذا ما أخلت الدول المتوسطة الدخل المكان في أسواق التصدير.
حسابات بسيطة توضح الصورة.
في عام 2023، كانت البرازيل والصين وكوريا الجنوبية وتايوان والمكسيك تمثل حوالي ثلثي صادرات الصناعات التحويلية منخفضة ومتوسطة المهارة، والتي بلغت 5.3 تريليون دولار.
ومع ارتفاع الأجور وتغير المشهد الجيوسياسي، لاسيما تصاعد المشاعر المناهضة للصين، من المرجح أن تتجه هذه الدول نحو سلاسل القيمة الأعلى أو تقلص اعتمادها على التصدير.
هذا التغير يمكن أن يفسح المجال للدول الفقيرة.
وإذا ما تمكنت من الاستحواذ حتى على نصف الأسواق التي ستُخلى، إلى جانب حصة من الطلب المحلي المتزايد في الصين، والمُقدر بنصف تريليون دولار على الأقل، فقد تتمكن من مضاعفة صادراتها الحالية إلى ما بين 2 و2.5 تريليون دولار.
وإذا حدث ذلك، يمكن أن يُخلق نحو 50 إلى 60 مليون وظيفة جديدة، حتى لو كانت القدرة التوظيفية للتصنيع أقل مما كانت عليه في السابق نتيجة الأتمتة.
وعلى سبيل المثال، أسهم قطاع التصنيع في الصين، الذي يعمل فيه نحو 150 مليون شخص، في تحسين مستويات معيشة 1.4 مليار نسمة.
وعلى النهج ذاته، يمكن أن تسهم فرص التصدير الموسعة في تحسين حياة نحو 500 مليون شخص في أفقر دول العالم.
صحيح أن الطريق بات أكثر صعوبة، لا سيما للدول التي تعتمد على الولايات المتحدة كشريك تجاري رئيسي، لكن هذا لا يعني أن نموذج النمو القائم على التصنيع قد مات.
بل إن ما يفرضه الواقع الجديد هو التكيف الاستراتيجي، عبر تنويع الشراكات التجارية وتعزيز العلاقات مع الاقتصادات متوسطة الدخل للضغط عليها كي تُخلي بعض أسواق التصدير.
إن التغيرات التكنولوجية وتراجع العولمة يدفعان نحو البحث عن بدائل فعالة لنمو يعتمد على التصدير.
لكن النظرة الواقعية تكشف عن معادلة صعبة: الخدمات القابلة للتصدير التي تعتمد على المهارات تقدم حيوية وثباتاً لكنها تفتقر إلى الشمول، في حين أن الخدمات غير القابلة للتداول تقدم شمولاً لكنها تفتقر إلى الديناميكية.
ورغم أن معجزات النمو التي حققتها الصين وكوريا الجنوبية وتايوان يصعب تكرارها، إلا أن التركيز على التصنيع كثيف العمالة ما زال خياراً واعداً، وقد يكون السبيل الأفضل لتحقيق الازدهار المشترك في أفقر مناطق العالم.
0 تعليق