مِن قَلْبِ طِهْرانَ، حَيْثُ تَمتَزِجُ الرُّوحُ بِالبَصِيرَةِ، وَالتَّقْوَى بِالوَعْيِ التَّارِيخِيِّ، يَتَوافَدُ الحُجّاجُ إِلى رِحابِ العِبادَةِ، حامِلِينَ فِي قُلُوبِهِمْ ما هُوَ أَعْمَقُ مِنَ المَناسِكِ: رِسالَةٌ مُتَجَدِّدَةٌ فِي زَمَنِ التَّحَوُّلاتِ.
الحَجُّ لَيْسَ لَحْظَةً فَرْدِيَّةً فَحَسْبُ، بَلْ هُوَ مِنَصَّةٌ رَبّانِيَّةٌ لِصِياغَةِ وَعْيٍ جَماعِيٍّ. فَكَما تَتَجَلّى فِيهِ الرُّوحُ الَّتِي تُنْتِجُ العِلْمَ وَالعَزْمَ، يَتَجَلّى أَيْضًا مَعْنَى اللِّقاءِ، وَالتَّشاوُرِ، وَتَحَمُّلِ المَسْؤُولِيَّةِ المُشْتَرَكَةِ فِي وَجْهِ قَضايا الأُمَّةِ.
فِي ظِلِّ قِيادَةٍ تُدْرِكُ أَنَّ فَرِيضَةَ الحَجِّ تَحْمِلُ بُعْدًا اجْتِماعِيًّا وسياسياً لا يَقِلُّ عَنْ بُعْدِها التَّعَبُّدِيِّ، يُعْلِنُ الحُجّاجُ التِزامَهُمْ بِإِرادَةٍ تَتَجاوَزُ الحُدودَ، إِرادَةٍ تَرى فِي كُلِّ مَوْسِمِ حَجٍّ فُرْصَةً لِإِعادَةِ بِنَاءِ وَحْدَةِ القَرارِ الإِسْلامِيِّ.
فَما مَعْنَى أَنْ يَجْتَمِعَ المَلايِينُ فِي زَمانٍ وَمَكانٍ واحِدٍ كُلَّ عامٍ، إِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَعْوَةً إِلَهِيَّةً لِتَوْحِيدِ الصُّفُوفِ، وَالتَّفْكِيرِ مَعًا، وَاتِّخاذِ قَراراتٍ تُعِيدُ لِلْأُمَّةِ مَوقِعَها وَمَكانَتَها؟ وَهُنا يَتَرَدَّدُ صَدَى الوَعْدِ الإِلَهِيِّ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، وَعْدٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِوَحْدَتِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا وَحْدَهُمْ، فِي ساحَةِ المُواجَهَةِ.
فَالمَظْلُومِيَّةُ فِي فِلَسْطِينِ، المَمْزُوجَةُ بِالعِزَّةِ وَالمُقاوَمَةِ، لَمْ تَعُدْ شَأْنًا مَحَلِّيًّا، بَلْ صارَتْ عَلَامَةً فارِقَةً فِي تاريخِ البَشَرِيَّةِ، وَحَجُّ هَذا العامِ هُوَ إِحْدى مَنَصّاتِها الكُبْرى.
فِي أَرُوقَةِ الحُسَيْنِيَّةِ، تَرْتَفِعُ الهُتافاتُ، لا لِتَأْجِيجِ الخُصُومَةِ، بَلْ لِتَأْكِيدِ المَوْقِفِ: أَنَّ الظُّلْمَ لا يُسْكَتُ عَنْهُ، وَأَنَّ الهَيْمَنَةَ لا يُسَلَّمُ لَها.
هُنا يُصْبِحُ الحَجُّ بَيانًا عالَمِيًّا، تَتَكَلَّمُ فِيهِ الأُمَّةُ بِصَوْتٍ واحِدٍ: الحَجُّ هُوَ التَّجَلِّي السَّنَوِيُّ لِإِمْكانِيَّةِ القَرارِ المُشْتَرَكِ. فِيهِ يَلْتَقِي الرُّوحُ بِالعَقْلِ، وَالمَناسِكُ بِالمَوْقِفِ، لِيُعْلِنَ المُؤْمِنُونَ أَنَّ العِبادَةَ الحَقِيقِيَّةَ تُتَرْجَمُ فِي ساحاتِ الوَعْيِ وَالمُقاوَمَةِ.
مِن طِهْرانَ إِلى مَكَّةَ، مِن غَزَّةَ إِلى عَرَفاتَ، يَتَشَكَّلُ وَعْيٌ جَدِيدٌ لا تَهْزِمُهُ التَّهْدِيداتُ وَلا تُشَتِّتُهُ الخِطاباتُ، لِأَنَّهُمْ مُوقِنُونَ بِوَعْدِهِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ﴾.
المصدر: موقع المنار
0 تعليق