تكوّنت شخصية الإمام في بيئة هادئة تسودها القيم الدينية الراسخة ويغلب عليها احترام العلماء وطلب العلم الشرعى.. وانعكست هذه النشأة على توجهاته الفكرية وجعلته أكثر انفتاحًا على هموم الناس وأكثر إدراكًا لواقعهم اليومي وحاجتهم إلى خطاب دينى رحيم.
استطاع فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف أن يحافظ على وسطية هذه المؤسسة واعتدالها، لتكون بحق الصخرة التي تحطمت عليها أفكار المتطرفين والغلاة، ويُعَدّ الحديث عن وسطية الدكتور أحمد الطيب حديثًا عن أحد أبرز القيادات الدينية التي أرست مفهوم الاعتدال والسماحة على أرض الواقع في الزمن المعاصر.
وللحديث عن هذه الوسطية لا بد من العودة لمسيرة الإمام العلميّة والفكريّة، والتي تتسم بالتنوع والثراء المعرفي، إلى جانب الالتزام بمبادئ الدين الإسلامي كما تلقاها عن علماء الأزهر الشريف وكما تشرّبها في بيئته المصريّة الأصيلة في صعيد مصر، حيث تكوّنت شخصية الطيب في بيئة ريفيّة هادئة، تسودها القيم الدينية الراسخة، ويغلب عليها احترام العلماء وطلب العلم الشرعي، وهذه النشأة انعكست بوضوح على توجهاته الفكرية؛ إذ جعلته أكثر انفتاحًا على هموم الناس، وأكثر إدراكًا لواقعهم اليومي وحاجتهم إلى خطاب ديني رحيم يراعي متغيرات الحياة وتعقيداتها.
ومن أبرز ما يميز شخصية الدكتور أحمد الطيب هو تمسكه بمنهج الأزهر الوسطي عبر العصور، وعدم الانحراف به يمنة أو يسرة، فالأزهر الشريف مؤسسة عريقة مضى على تأسيسها أكثر من ألف عام، وقد مرّت عليها عهود مختلفة من الازدهار العلمي والجهود الإصلاحية والحوار مع مختلف المذاهب والتيارات، وعلى الرغم من ذلك، حافظ الأزهر في مجمله على نهج وسطي تبرز فيه أصول الاعتدال والاستناد إلى تراث فقهي سني واسع الأطياف، يشمل المذاهب الفقهية الأربعة المعروفة.
وقد نشأ الدكتور أحمد الطيب في رحاب هذه المدرسة المتميزة بالتوازن والاعتدال، فنهل من علومها، وتأثر بشخصياتها الفذّة، وتشرّب مناهجها في التعامل مع النصوص الشرعية ومع قضايا العصر، وعلى مدى سنوات دراسته وعمله في الأزهر، صقل الطيب أدواته المعرفية وأصبح قادرًا على التمييز بين القضايا القطعية التي لا خلاف فيها والقضايا الاجتهادية التي تتسع فيها الآراء.
الثوابت الشرعية ومصالح العصر
ويمكن لمن يتابع فتاوى ومواقف الدكتور أحمد الطيب أن يلمس بوضوح تركيزه الدائم على ضرورة الجمع بين الحفاظ على الثوابت الشرعية وبين مراعاة مصالح الناس ومعطيات العصر، فهو لا يتردد في التأكيد على حرمة التلاعب بنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية، وفي الوقت ذاته يحثّ على تأمل هذه النصوص بفهم عميق يراعي مقاصد الشريعة الكلية، وفي مقدمتها جلب المصالح ودرء المفاسد.
هذه المقاصد تمثل الركيزة الأساسية في الفقه الإسلامي الوسطي، وهي المرجعية التي تعين المفتي والقاضي والعالِم على إصدار أحكام تتسق مع روح الإسلام ولا تتجمد عند ظواهر النصوص أو تتجاهل ضرورات التيسير، ومن هذا المنطلق، ارتكزت آراء الدكتور الطيب على منهجية واضحة في التعامل مع القضايا المستجدة، سواء أكانت اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية.
وفي إطار فهمه الوسطي للإسلام، لطالما شدّد الدكتور أحمد الطيب على أنَّ الإسلام ليس دينًا منعزلًا عن الحياة، بل هو منهج شامل يدعو إلى البناء والإعمار واحترام الإنسان والعمل على رفاهيته وسعادته في الدنيا والآخرة، ومن ثَمّ، فهو يرفض الخطابات الدينية التي تحرض على الكراهية أو العنف أو التي تكرس الفهم الأحادي المتطرف للنصوص، ويشدد باستمرار على أن الأفكار المتطرفة تنبع غالبًا من تفسيرات خاطئة أو متعجلة للنص القرآني والحديث النبوي، لا تراعي مقاصد الشريعة ولا السياقات التاريخية واللغوية، وعلى هذا الأساس، يؤكد الإمام الأكبر على أهمية دور المؤسسات الدينية والعلماء في توعية الشباب بالنهج السليم لفهم الإسلام، وفي الوقت نفسه التصدي لدعوات الغلو والعنف الفكري والجسدي.
للمزيد.. محمد شعت يكتب: الإمام الطيب.. مسيرة الاعتدال بين تطرفين
المرأة في فقه الإمام الأكبر
ومن النقاط المهمة التي تبرز فيها وسطية شيخ الأزهر هي مواقفه حول قضايا المرأة وحقوقها في الإسلام، فهو يرى أنَّ المرأة شريك أساسي في المجتمع الإسلامي، وأن الأحكام الشرعية المتعلقة بالمرأة ليست أحكامًا جامدة تقيّد دورها في الحياة، بل هي أحكامٌ تنطلق من مبدأ التكريم والمساواة في الكرامة الإنسانية، وتأخذ بالاعتبار الفوارق الفسيولوجية والاجتماعية دون أن تنتقص من حقّها في المشاركة الفاعلة والبناءة.
وعلى الرغم من تمسك الأزهر الشريف بالتقاليد الشرعية، إلا أن الدكتور الطيب يؤكد في تصريحاته ومداخلاته المتكررة أنَّ كثيرًا من العادات الموروثة التي تنسب للشرع قد لا تكون من صميم الإسلام، بل قد تكون ظواهر اجتماعية وثقافية دخيلة على روح الدين، كما يشدد على أهمية إعادة النظر في القوانين والأعراف المحلية التي قد تُقيِّد المرأة وتمنعها من أداء دورها بإيجابية، ما دامت هذه المراجعة متوافقة مع ثوابت الشريعة ومقاصدها الكلّية.
ولم تتوقف وسطية الدكتور أحمد الطيب عند حدود القضايا الاجتماعية والحقوقية فحسب، بل امتدّت لتشمل القضايا السياسية والإنسانية والدولية، ففي كل مناسبة تتطلب منه موقفًا واضحًا، نجده يشدّد على ضرورة تحكيم قواعد العدالة والسلام واحترام الحقوق الإنسانية، وفي الوقت ذاته، لا يتوانى عن إدانة أي عنف أو إرهاب أو انتهاك لحقوق الأقليات أو الأقليات الدينية.
التعددية الثقافية والأخوة الإنسانية
كما يدعو شيخ الأزهر باستمرار إلى احترام التعددية الثقافية والدينية، لا سيما في المجتمعات الإسلامية التي تضم في بعض دولها أقليات مختلفة، وقد ظهر هذا الموقف الوسطي جليًّا في نداءاته للحوار بين أتباع الديانات السماوية المختلفة، مسلمين ومسيحيين ويهود، وكذلك في لقاءاته مع رؤساء الكنائس المختلفة، حيث يؤكد أنَّ القواسم المشتركة بين الأديان أكثر بكثير مما يفرّقها، وهذا هو في جوهره المنهج الأزهري الذي يدعو إلى التعايش والتعاون على البرّ والتقوى.
ولعل من أبرز المحطات في رحلة الدكتور أحمد الطيب لتجسيد وسطية الإسلام لقاءاته المتكررة مع بابا الفاتيكان، البابا فرنسيس، وما أثمر عنه ذلك من إصدار وثيقة «الأخوة الإنسانية» في عام ٢٠١٩، والتي تُعَدّ علامة بارزة في تاريخ الحوار بين الأديان، حيث شدّد الإمام الأكبر في هذا السياق على أنَّ الحوار لا يعني التنازل عن الثوابت، بل يعني التفاهم والتعاون على القيم الإنسانية العليا التي ينادي بها كل دين سماوي، وفي مقدمتها الرحمة والعدل والمساواة والكرامة الإنسانية.
وهذه الوثيقة تضرب مثالًا حيًّا على كيفية توظيف الفكر الوسطي الإسلامي في تحقيق التقارب بين الشعوب والأمم المختلفة عقائديًا وثقافيًا، وهي شهادة واضحة على جدوى النهج الذي يتبناه الدكتور الطيب في نشر خطاب التسامح والوسطية عالميًا.
ولا يمكننا الحديث عن وسطية الدكتور أحمد الطيب دون التطرّق إلى جهوده في ترسيخ مناهج علمية رصينة داخل مؤسسة الأزهر وخارجها، فمن خلال موقعه على رأس هذه المؤسسة، دأب على تعزيز البرامج الدراسية التي تجمع بين علوم القرآن والسنّة من جهة، وبين العلوم الحديثة والمتطلبات الواقعية من جهة أخرى، وهو يرى أنَّ الفهم الصحيح للدين لا يتعارض بأي حال مع التطور العلمي والتقني، بل يفتح آفاقًا للتجديد والإبداع في إطار القيم الإسلامية.
كما حرص الدكتور الطيب على دعم جهود المجالس العلمية واللجان المتخصصة في الأزهر، بحيث تكون قادرة على تناول المسائل الفقهية والفكرية الجديدة التي تطرأ على المجتمعات المسلمة في شتى البقاع، وهذا التوجه الإصلاحي الوسطي يساعد بشكل كبير في تحصين العقول من التشدّد وإفشال مساعي الجماعات المتطرفة التي تستغل جمود الخطاب الديني في بعض الأحيان لترويج أفكارها المنحرفة.
إن المتأمل في خطب الدكتور أحمد الطيب وكلماته في المؤتمرات الإسلامية والدولية سيجده دائم التحذير من مغبّة التفرّق المذهبي والطائفي بين المسلمين أنفسهم، ففي رأيه، أنَّ وحدة الأمة الإسلامية لا يمكن أن تتحقق إلا على قواعد الاحترام المتبادل بين المذاهب الإسلامية المختلفة.
احتواء دون إقصاء
وعلى الرغم من انتمائه للمذهب السني الأشعري، ولكن هذا الانتماء لم يمنعه من الدعوة إلى توحيد الصف الإسلامي في وجه الأخطار الخارجية والداخلية، وهو يكرر الدعوة إلى نبذ الطائفية التي تمزِّق وحدة المسلمين، مشيرًا إلى أنَّ رحابة التراث الإسلامي تتسع لتعدد الاجتهادات الفقهية طالما كانت منضبطة بقواعد العلم وأصول الفهم الصحيح، ولعل في هذا الموقف تجسيدًا عمليًا لفكرة الوسطية التي لا تنغلق على مذهب دون آخر، ولا تنجر إلى خطاب تكفيري أو إقصائي، بل تفسح المجال لحوار علمي جادّ يعترف بالتنوّع ويرى فيه مصدرَ غنى للثقافة الإسلامية.
ولا يقتصر مفهوم الوسطية لدى الدكتور أحمد الطيب على الجانب النظري والفكري، بل يمتد إلى تطبيقات واقعية تمس المجتمع، فالإمام الأكبر يؤكد باستمرار أهمية التكافل الاجتماعي وإعلاء قيم التضامن بين أفراد المجتمع، لاسيما في ظل الأزمات الاقتصادية والسياسية التي تشهدها بعض البلدان العربية والإسلامية، ويشيد دائمًا بدور المؤسسات الخيرية والأوقاف الإسلامية في رعاية الفقراء والمحتاجين، انطلاقًا من مبدأ المسئولية الاجتماعية الذي أرسته الشريعة الإسلامية، وهو موقف وسطي يحقق التوازن بين رعاية المصالح العامة للأمة وبين تشجيع القطاع الأهلي على الإسهام في بناء المجتمع، كما يشير إلى دور الزكاة والأوقاف في تحقيق النمو الاقتصادي الحقيقي والعدالة الاجتماعية، محذرًا من التصرفات التي تحرم المحتاجين من حقوقهم أو تسخّر هذه الأموال في غير ما شُرعت له.
حرية دينية تحترم العقل
وتتجلى وسطية شيخ الأزهر كذلك في مواقفه من مسائل الحرية الفكرية والدينية، فهو يرفض التضييق على الحريات العامة للإنسان إلا في إطار مراعاة النظام العام والقيم الأخلاقية، ففي نظره، الشريعة الإسلامية لا تصادر حرية العقل ولا تفرض نمطًا فكريًا أحاديًا، بل تحثّ على التفكّر والتدبّر في ملكوت الله، كما يرى أنَّ الحوار هو السبيل الأمثل لمواجهة الأفكار المنحرفة بدلًا من المنع والإكراه، مشيرًا إلى أنَّ الفكر يُواجَه بالفكر، والحجة لا تُبطِلها إلا حجة أقوى منها، وهذه هي روح الوسطية التي تبتعد عن التشدّد والانغلاق، وتُعلي من شأن حرية التعبير المسؤولة التي تُوازِن بين حق الإنسان في إبداء رأيه وواجب احترام الثوابت الدينية والمجتمعية.
من جانب آخر، ينظر الدكتور الطيب إلى الدعاة ورجال الدين باعتبارهم سفراء للأزهر ورسلًا للوسطية الإسلامية، ومن ثَمَّ، شجّع عبر خطاباته المتعددة على إعداد الأئمة والخطباء إعدادًا علميًا رفيعًا، بحيث يكونون قادرين على مخاطبة الجمهور بمختلف شرائحه، ومتمكنين من الجمع بين معارف التراث الإسلامي الراسخ وبين مهارات التواصل الحديثة، كما يشجع على دراسة اللغات الأجنبية للاطلاع على النتاج الفكري العالمي، مما يساعد على انفتاح الأزهريين على الحضارات المختلفة، وتسهم في تعزيز مكانة الأزهر كمنارة علمية عالمية، فهو يدرك أنَّ العصـر الحالي يتطلب مجابهة الأفكار المتطرفة باللغة التي يفهمها الناس، وبالوسائل الإعلامية الحديثة، سواء أكانت مرئية أم مسموعة أم رقمية لذا أنشأ العديد من المراصد منها مرصد الفتاوى المتشددة باللغات المختلفة.
مقاصد الشريعة أولًا
وعندما ننظر إلى فتاوى الطيب، نجد فيها روحًا وسطية تستلهم مقاصد الشريعة وتبتعد عن التشدّد والجمود، فهو حريص على توضيح الأحكام المستندة إلى الأدلة الشرعية وتبيان الأقوال الفقهية في المسألة، ثم يطرح الرأي الذي يراه أقرب إلى تحقيق مصالح الناس ودفع المشقة عنهم، ويتجلى ذلك في تناوله لقضايا مثل تنظيم الأسرة، وعمل المرأة، والمعاملات البنكية الحديثة، وغيرها من القضايا التي تثير جدلًا في الأوساط الإسلامية، خاصةً أنَّ طريقته في إصدار الفتاوى ترتكز على قاعدة «التيسير في محلّه» و«الشدة في محلّها»، فكما لا يجوز التهاون في أمور الدين القطعية، لا يصح أيضًا التعسير في المسائل الاجتهادية التي قصد الشرع منها اليسر والتخفيف على الناس، استنادًا للقاعدة الفقهية التي تقول: "المشقة تجلب التيسير".
وللإمام الأكبر دور ملحوظ في التصدي لدعاة التشدد الديني، سواء في داخل مصر أو خارجها، حيث تبنّى في هذا الصدد خطابًا واضحًا يكشف عوار الفكر التكفيري والجهادي الذي اعتمد عليه بعض التنظيمات المسلّحة لتبرير العنف والإرهاب، مؤكدًا أنَّ هذه الممارسات تتنافى كليًا مع المبادئ الإسلامية، وأعظمها حرمة الدم وحرمة الاعتداء على الآمنين، كما يدعو دائمًا إلى إحياء روح الاجتهاد العلمي لدى الشباب، وتشجيعهم على العودة إلى المراجع الفقهية الأصيلة بدل الانقياد وراء «الفتاوى المعلّبة» التي تصدر عن غير المؤهلين علميًا، ولا تأخذ بعين الاعتبار المقاصد الشرعية وظروف كل مجتمع وطبيعة كل قضية.
إنّ هذه الوسطية لم تكن شعارًا فحسب، بل هي ممارسة عملية حاضرة في سيرة الإمام الأكبر منذ توليه مشيخة الأزهر الشريف، فقد قاد جهودًا حثيثة لتطوير التعليم الأزهري، وبادر بإجراء حوارات موسعة مع المؤسسات الدينية والمثقفين في داخل مصر وخارجها، لتعزيز مفهوم «التجديد» الذي لا يتعارض مع أصالة الدين، إذ إنّ التجديد عنده ليس خروجًا على الثوابت أو تحلّلًا منها، بل هو إعمال للعقل في فهم النصوص وتنزيلها على الواقع بما يراعي تغير الأزمنة والأمكنة، ومن هنا تكمن أهمية الأزهر كمنارة عالمية قادرة على تأهيل كوادر دينية مؤمنة بقيم التسامح والحوار والاعتدال.
الحضارات.. حوار لا صراع
ومن القضايا التي تُبرِز وضوح رؤية الدكتور الطيب وتوسّطه، موقفه من فكرة «صراع الحضارات» أو «صدام الثقافات» التي يروّج لها البعض، فهو يرى أنّ الحضارات الإنسانية، على تعددها واختلافها، لا ينبغي أن تكون في حالة صراع دائم، بل يمكن أن تتحاور وتتعايش وتتبادل المنافع، مشيرًا إلى أنَّ الإسلام في تاريخه الطويل تفاعل مع حضارات أخرى، سواء الفارسية أو الرومانية أو اليونانية، وأخذ منها وأعطاها، حتى نتج عن ذلك ازدهار حضاري وعلمي وثقافي في العصور الذهبية للحضارة الإسلامية، وفي وقتنا المعاصر، باتت هناك حاجة ماسّة لتفعيل هذا البعد الحضاري في العلاقات الدولية، لأن البشرية تواجه تحديات كبرى كالفقر والجوع والأوبئة والاحتباس الحراري، ولا سبيل لمواجهتها إلا بالتضامن والتعاون القائم على الاحترام المتبادل.
للمزيد.. محمود حامد يكتب: هكذا تحدث الإمام الأكبر أمام ممثلى الغرب
وفي سياق فهمه الوسطي، يدرك شيخ الأزهر دور الإعلام في تشكيل الوعي الشعبي والتأثير في الرأي العام، لذا فقد دعا مرارًا وتكرارًا إلى ضرورة أن يضطلع الإعلام بدور إيجابي في نقل المعرفة الدينية الرصينة، والابتعاد عن التحريض أو تضخيم الخلافات، كما ناشد المؤسسات الإعلامية التنسيق مع المرجعيات الدينية المعتمدة كالجامع الأزهر، لضمان نشر المعلومة الدينية الصحيحة والحدّ من انتشار الفتاوى المضللة، وهذا هو النموذج العملي للوسطية التي لا تكتفي بالجلوس في البرج العاجي، بل تقتحم الواقع وتقترح الحلول العملية لمشكلاته.
ومن الجدير بالذكر أن الدكتور أحمد الطيب يحرص على التواصل المباشر مع الجمهور من مختلف الفئات العمرية والمستويات التعليمية، فقد شهدت السنوات الأخيرة مشاركته في ندوات شبابية ولقاءات حوارية تطرّق فيها إلى هموم وقضايا الشباب بشكل خاص، وناقش معهم سبل مواجهة الأفكار المتطرفة وتصحيح المفاهيم الخاطئة عن الإسلام، وقد لقيت هذه اللقاءات ترحيبًا واسعًا، لأنها تتيح للشباب فرصة الحوار مع أعلى سلطة دينية في الأزهر، والاستماع إلى رؤاه المعتدلة القائمة على الدليل الشرعي والحس الواقعي، لا سيما أنّ هذه المبادرات تمثل جسرًا متينًا بين العلماء والأجيال الصاعدة، وتسهم في تجديد الثقة بالمؤسسات الدينية العريقة.
ولعل من النقاط الأساسية التي تُميّز وسطية الطيب أيضًا هي عدم إقصاء المخالفين من دوائر الحوار والنقاش، فقد دعا في أكثر من مناسبة إلى ضرورة احتواء المشككين والمنتقدين والمخالفين، لا نبذهم أو إقصاءهم، مشددًا على أنَّ الوصول إلى الحق يمرّ عبر الحوار العلمي والأدلة الموضوعية، وهذا النهج يقطع الطريق على ثقافة التشدد التي لا ترى إلا نفسها، وترفض أي محاولة للاختلاف أو النقاش الحر، وفي الوقت ذاته، فإن هذه الوسطية الواعية لا تعني التنازل عن الأصول أو الثوابت، وإنما تميّز جيدًا بين ما هو قطعي لا يقبل الشك وما هو ظني أو اجتهادي قد يتعدد فيه الرأي والفتوى.
عالمية الشيخ والمشيخة
وهكذا، نستطيع القول إنّ وسطية الدكتور أحمد الطيب ليست مجرد نظريات أو خطابات إعلامية جوفاء، بل هي منهج فكري وسلوكي يتجلى في مواقفه وفتاواه واجتهاداته، ويمتد إلى ميادين متعددة من الحياة الإسلامية، سواء الدينية أو الاجتماعية أو الثقافية أو السياسية، حيث أثبت الطيب أنَّ الأزهر يمكنه أن يكون سلطة دينية عالمية تُصدِر الخطاب الإسلامي المعتدل إلى العالم، وتتصدى لأمواج التشدد والعنف التي شوهت صورة الإسلام في أعين الكثيرين، وبفضل هذا النهج، ينظر كثيرون إلى الدكتور أحمد الطيب اليوم على أنه رمز للوسطية في مرحلة مفصلية من تاريخ الأمة الإسلامية، تعاني فيها من استقطابات حادّة وتحديات جسيمة.
لقد أظهر الإمام الأكبر أنّ الإسلام، في جوهره، دين يحمل رسالة عالمية تدعو إلى السلام والرحمة والإخاء، ولا يعادي العقل ولا يجهل سنن الكون وقوانينه، كما أكّد أنّ التجديد الديني ليس مغامرة في المعتقدات الأساسية، بل هو حركة دائمة تصون الإسلام من الجمود، وتتفاعل مع ظروف المجتمعات المتغيرة، وإن نجاح الدكتور الطيب في إبراز هذه الصورة الوسطية للإسلام يرتبط أيضًا بتضافر جهود المؤسسات الدينية والتعليمية والإعلامية، وكذلك بالدعم الحكومي والمجتمعي، لكي تصبح هذه الوسطية ثقافة عامة تتبناها الأجيال الحالية والقادمة.
للمزيد.. محمد يسري يكتب: المجاهد.. رحلة في فكر الإمام الأكبر ومنهجه
بقى أن أشير إلى أن الحديث عن وسطية الدكتور أحمد الطيب هو في الوقت نفسه حديث عن دور الأزهر الشريف تاريخيًا وحاضرًا، فالأزهر سيظل منارة للعلم والدعوة، وحاضنة للإسلام الوسطي، ومرجعًا لكثير من المسلمين حول العالم، وما دام يرأس هذه المنارة شيخٌ يجمع بين العلم والورع والانفتاح الفكري، فإنَّ الأمل قائم في نهضة فكرية وتجديدية تليق بمكانة المسلمين وحاجاتهم إلى ترسيخ قيم التسامح والاعتدال والعدالة، لا سيما أنّ المسيرة التي قادها الدكتور الطيب تؤكد أنَّ الوعي بمقاصد الشريعة وحاجات الزمن المعاصر هو الضامن الوحيد لتجديد الخطاب الديني بما يخدم المجتمعات الإنسانية، ويعكس حقيقة وسطية الإسلام واعتداله على الوجه الأمثل.
0 تعليق