د. أيمن سمير
تواجه فرنسا وحلفاؤها الغربيون تحدياً من نوع خاص، ورفض غير مسبوق من «الجيل الجديد للقادة الأفارقة» لأي مقاربة فرنسية جديدة تُبقي على ما كان لفرنسا دائماً في عقول وقلوب الشعوب الإفريقية، وباتت باريس تعيش اليوم ما حذر منه الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك الذي قال ذات يوم: «لا تنسوا شيئاً واحداً، وهو أن جزءاً كبيراً من الأموال التي لدينا تأتي من استغلال إفريقيا على مر القرون، لذلك نحن بحاجة إلى قدر قليل من الحس السليم، لم أقل الكرم، ولكن الحس السليم والعدالة، كي نقدم للأفارقة ما أخذناه منهم، وهذا ضروري إذا أردنا تجنب الاضطرابات والصعوبات الشديدة، مع كل العواقب السياسية التي سيجلبها ذلك في المستقبل القريب».
ما حذر منه الرئيس شيراك يتجسد اليوم بكل معنى الكلمة عندما طلبت كلا من داكار وانجامينا من الحكومة الفرنسية سحب قواتها وجيوشها من السنغال وتشاد، بعدما قال الرئيس السنغالي الجديد باسيرو ديو ماي فاي في 28 نوفمبر الماضي أن بلادة عازمة على إغلاق كل القواعد العسكرية للجيش الفرنسي في السنغال بعد 64 عاماً من استقلال السنغال عن فرنسا، مبرراً تلك الخطوة بأن وجود قوات فرنسية في البلاد يتعارض مع مبدأ «السيادة الكاملة» للدولة، وفي ذات اليوم أعلن وزير الخارجية التشادي عبد الله كلام، أن بلاده أنهت «كافة اتفاقيات الأمن والدفاع» مع فرنسا مستخدماً نفس التبرير الذي تحدث عنه الرئيس السنغالي.
وسبق هذا وذاك خروج فرنسا عسكرياً بالكامل من 3 دول كبرى في منطقة الساحل والصحراء هي بوركينا فاسو ومالي والنيجر التي خرج منها آخر جندي فرنسي في نهاية ديسمبر 2023، ولم يتوقف «النفور الإفريقي» من فرنسا، بل وصل إلى كل الدول الغربية، سواء كانت الولايات المتحدة أو الدول الأوروبية مثل ألمانيا وهولندا، ولهذا رفضت النيجر كل الضغوط للإبقاء على قاعدتين عسكريتين للولايات المتحدة في العاصمة نيامي أو مدينة أجاديس التاريخية شمال البلاد، وخرج بالفعل آخر جندي أمريكي من النيجر في 15 سبتمبر هذا العام بعد أن مهدت نيامي لهذه الخطوة بالانسحاب في مارس 2024 من اتفاقية التعاون العسكري مع واشنطن، تلك الاتفاقية التي جرى التوصل إليها في عام 2012.
وليس هذا فقط، فالحديث يتصاعد في 14 دولة في وسط وغرب إفريقيا تتعامل«بالفرنك الإفريقي» - المرتبط عضوياً بالبنك المركزي الفرنسي- لفك الارتباط بين الفرنك الإفريقي وفرنسا.
على الجانب المقابل هناك تقارب غير مسبوق بين كل هذه الدول الإفريقية التي أنهت الوجود العسكري الفرنسي والأمريكي مع روسيا والصين، ليس فقط لرؤية الدول الإفريقية بأن المقاربات الصينية والروسية «أكثر عدالة» لكن أيضاً يتحدث الكثير من الأفارقة أن الشركات الأمنية والعسكرية الخاصة الصينية والروسية «أكثر فاعلية» و«أقل كلفة» من الشراكات العسكرية التي جمعت الدول الإفريقية مع الجيوش الفرنسية والأمريكية، فما هي أسباب ودوافع هذه الموجه الجديدة من «القطيعة العسكرية» الإفريقية تجاه فرنسا؟ ولماذا تتجه الجيوش الإفريقية لتعميق جسور التعاون والتدريب والثقة مع الصين وروسيا؟
أسباب كثيرة
تقول كل المؤشرات أن فرنسا على أعتاب نهاية نفوذها في إفريقيا بعد ما يزيد على 250 عاماً من الوجود الفرنسي في القارة الإفريقية، ولم يأت الموقف السنغالي والتشادي لإنهاء العلاقات الأمنية والعسكرية مع فرنسا من فراغ، فكثير من الدول الإفريقية التي استعمرتها فرنسا في ثمانينات وتسعينات القرن التاسع عشر لم تعد تثق في خطط باريس في إصلاح العلاقات الفرنسية الإفريقية منذ المبادرة الشهيرة التي أطلقها الزعيم الفرنسي شارل ديجول عام 1968 لتطوير وتحسين العلاقات بين باريس ومستعمراتها السابقة، ولم تنجح محاولات أخرى كثيرة من قادة فرنسيين لإيجاد «مسار جديد» يصحح المسيرة الطويلة من العلاقات الفرنسية الإفريقية، منها محاولات رؤساء آخرين أبرزهم فاليري جيسكار ديستان، وجاك شيراك ونيكولاي ساركوزي، وفرنسوا أولاند الذي أرسل قوات عسكرية ضخمة عام 2015 لاحتواء التمرد في مالي، لكن النتائج كانت سلبية للغاية، دفعت في النهاية لإنهاء كافة أشكال التعاون العسكري الفرنسي مع مالي، وساهمت أسباب أخرى في «تصفير» الوجود العسكري الفرنسي في إفريقيا ومنها:
أولاً: الفشل الأمني والعسكري
تدخلت فرنسا عسكرياً في إفريقيا نحو 60 مرة منذ عام 1960، ورسمت هذه التدخلات صورة نمطية سلبية عن فرنسا تقول إن باريس تتدخل فقط من أجل مصالحها، وليس بهدف تحقيق السلام والاستقرار في إفريقيا، وأن هذه التدخلات كانت لدعم حركات وشخصيات انقلابية لم تسهم أبداً في تحسين حياة الأفارقة، ويؤكد الأفارقة على ذلك بفشل جميع المحاولات الفرنسية لمواجهة التنظيمات الإرهابية ومنها فشل «عملية سرفال» التي بدأت في عهد الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا أولاند عام 2013، ثم فشل عملية «برخان» التي بدأت منذ عام 2014 وانتهت عام 2022 بخروج كل القوات الفرنسية من مالي، فعلى سبيل المثال زادت وتيرة التمرد في شمال مالي رغم آلاف الجنود الفرنسيين، كما أن السنوات الأخيرة من وجود القوات الفرنسية في بوركينا فاسو والنيجر شهدت موجات عنف ضد القوات الحكومية لم تعرفها دول القارة منذ سنوات، وبسبب غياب الأمن وانتشار الإرهاب وشيوع ثقافة الرفض في المستعمرات الفرنسية السابقة وقعت 7 انقلابات عسكرية من عام 2021 حتى 2023، وجميع هذه الانقلابات انتهت إلى نتيجة ليست في صالح فرنسا.
ووفق تقرير نشره مركز إفريقيا للدراسات الاستراتيجية هذا العام أكد أن منطقة الساحل شهدت زيادة كبيرة في عدد الأحداث الإرهابية منذ عام 2021، ونتج عن ذلك تشريد الملايين، وإغلاق آلاف المدارس، وترك 12.7 مليون شخص يعانون انعدام الأمن الغذائي في بوركينا فاسو ومالي والنيجر، وزاد العدد السنوي للأحداث العنيفة المرتبطة بالجماعات المتشددة في الدول المجاورة لمنطقة الساحل الإفريقي بنسبة تزيد على 250% خلال عامي 2022 و2023، ويكفي فقط الإشارة إلى ما يجري في غرب إفريقيا لمعرفة مدى التغول الذي وصلت إليه الجماعات الإرهابية رغم الوجود الفرنسي، فتنظيم داعش وسع من حضوره في غرب إفريقيا عبر تأسيس ولايتين، الأولى ولاية غرب إفريقيا، وولاية الساحل، وهو ما يوسع نفوذ هذه الجماعات من مالي إلى شمال نيجيريا
ثانياً: الاستغلال الاقتصادي
يترافق مع الفشل الفرنسي في تحقيق الأمن والاستقرار ما يراه الأفارقة بأنه استغلال اقتصادي، وربما هذا الاستغلال كان وراء نداء الرئيس شيراك بتصحيح العلاقات الاقتصادية بين باريس والدول الإفريقية، وتؤكد الكثير من الدراسات الاقتصادية أن باريس تجني المليارات من «الفرنك الإفريقي» الذي تستخدمه 14 دولة في إفريقيا، حيث يفرض نظام «الفرنك الإفريقي» على الدول الأربع عشرة أن تودع 50% من عائداتها من النقد الأجنبي في البنك المركزي الفرنسي بهدف الحفاظ على القيمة النقدية للفرنك الإفريقي أمام العملات الدولية، وهو أمر بات الأفارقة ينظرون إليه باعتباره «ينتقص من سيادة الدولة الوطنية» ويعطل مسيرة التنمية الإفريقية، ويدللون على هذا الأمر بانتشار التهميش والفقر والأمراض والإرهاب في الدول الإفريقية الأعضاء التي تتعامل بالفرنك الإفريقي، بل ويقارن البعض بين الدول الإفريقية التي كانت تحت الاستعمار الفرنسي، والدول الأخرى التي كان يستعمرها غير الفرنسيون، وهناك اتفاق على أن الدول التي كانت تحت الاستعمار غير الفرنسي أفضل حالاً من حيث البنية التحتية والأوضاع الاقتصادية من الدول التي أصرت فرنسا على الاحتفاظ بعلاقات اقتصادية معها رغم نهاية الاحتلال الفرنسي لغالبية الدول الإفريقية في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، ووفق الكثير من تصريحات القادة الأفارقة فإن بلادهم لم تجن الكثير مقابل كل الموارد والمواد الأولية التي تحصل عليها الشركات الفرنسية، فعلى سبيل المثال تقول حكومة النيجر الحالية أن
75% من اليورانيوم الذي تعمل به المفاعلات النووية الفرنسية يأتي من إفريقيا، بينما تحصل إفريقيا على ما يساوي 2% فقط من عائدات الكهرباء التي تنتجها هذه المفاعلات، وهو الأمر الذي ساهم في انتشار الفقر في إفريقيا جنوب الصحراء، فدولة مثل النيجر التي تصل مساحتها لنحو 1.2 مليون كلم، ويسكنها نحو 24 مليون نسمة لا يزيد دخل الفرد فيها عن 400 دولار «سنوياً»، وهو ما يضعها في خانة الدول الأكثر فقراً في العالم، ، ولم تقدم شركات استخراج النفط والمعادن الفرنسية أي جهد حقيقي في النهوض بالقارة الإفريقية، ويأخذ الكثير من الأفارقة على فرنسا أنها لم تساعدهم على التخلص من الديون، الأمر الذي زاد من معدلات الفقر والتهميش في الدول الإفريقية، وأظهرت مجموعة البنك الإفريقي للتنمية أن حجم الديون الخارجية بلغ نحو 1751 مليون دولار في بوركينا فاسو، و2134 مليون دولار في تشاد، و1863 مليون دولار في مالي.
ثالثاً: وفرة العروض السخية
لم يعد الأفارقة أمام خيارات أمنية وعسكرية واقتصادية محدودة كما كان في السابق، فدول مثل الصين وروسيا والهند توفر بدائل أمام صانع القرار الإفريقي، لذلك شاحت الكثير من الدول الإفريقية بوجهها عن فرنسا، وذهبت إلى الصين والهند في المجالات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية بينما لجأت إلى روسيا في القضايا الأمنية، واليوم لدى قادة إفريقيا الوسطى والنيجر وبوركينافاسو ومالي علاقات عسكرية وأمنية قوية مع روسيا، ونجحت روسيا والصين في كسب قلوب القادة الجدد في إفريقيا بعد أن أصبحت المدارس والأكاديميات العسكرية الصينية والروسية هي الوجهات المفضلة لقادة الجيوش الإفريقية في ظل تراجع عدد المنح الدراسية في الأكاديميات العسكرية الفرنسية، كما باتت الصين هي الشريك التجاري الأول لإفريقيا، وليس فرنسا أو حتى الولايات المتحدة، وهو ما يقول إن عقل وقلب إفريقيا يتجه بعيداً عن فرنسا.
رابعاً: جيل جديد وثقافة مختلفة
ظلت فرنسا في العقود الماضية تستثمر سياسياً في طبقة قليلة العدد، قوية النفوذ في القارة الإفريقية، وهذه الطبقة كانت تقتصر فقط على رجال الأعمال، وقادة الجيوش والذين حصلوا على تعليم رفيع في المدارس والجامعات الفرنسية وفق ما يطلق عليه «بالمجتمع الفرانكفوني»، لكن بعد نحو 6 عقود على استقلال الدول الإفريقية وانتشار الذكاء الصناعي ووسائل التواصل الاجتماعي، بات للقاعدة الشعبية دور كبير في رسم السياسات الإفريقية، وهذه القاعدة الشعبية ليست صديقة لفرنسا، وثقافتها ليست فرنسية، كما أن غالبية القادة الجدد في الدول الإفريقية ينتمون للقيادات الوسطى في الجيوش الإفريقية، وهي قيادات لم تتمتع بمزايا النخب من القيادات الكبيرة التي كانت تحصل على مكاسب من العلاقة مع باريس، ناهيك أن هذه القيادات الجديدة تواجه تحديات تنموية وأمنية وعسكرية لا ترى في فرنسا الطرف الدولي السخي الذي يستطيع أن يساعد على تجاوز تلك المشكلات، وحتى في المجال الرياضي الذي كانت توصف فيه فرنسا بأنها رائدة في دعم الرياضة الإفريقية، لم يعد كما كان في عقدي الثمانينات والتسعينات في القرن الماضي، وهو شاهد جديد على تراجع «القوة الثقافية» لفرنسا في إفريقيا والذي تزامن مع تراجع عدد المنح الدراسية للطلاب الأفارقة في الجامعات الفرنسية، الأمر الذي ساهم في تحول النخبة الجديدة إلى دول وثقافات ومستوى تعليمي لا يرتبط بالثقافة والتعليم الفرنسي.
المؤكد أن محاولة الرئيس الحالي ايمانويل ماكرون لتصحيح هذه العلاقة عبر العمل على بناء علاقات «متوازنة وشفافة ومسؤولة» وفق استراتيجية جديدة وضعها في فبراير 2023 لم تحقق المستهدف حتى الآن، وأن مطالبة السنغال ثم تشاد لفرنسا بسحب قواتها، يؤكد أن آخر مقاربة للرئيس ماكرون لم تصادف النجاح الذي يتمناه، مثلما حدث مع خطط واستراتيجيات من سبقوه منذ الرئيس ديجول، وهو ما يؤكد أننا أمام مرحلة جديدة ربما تشهد «تصفير» النفوذ الفرنسي في إفريقيا.
[email protected]
أخبار متعلقة :