في فترات ما بعد النزاع، لا تتوقف المعارك عند حدود السلاح، بل تستمر عبر صراعات الذاكرة التي تُعيد رسم ملامح الهوية والعدالة والانتماء، فالطريقة التي نتذكّر بها الماضي، أو نتجاهله، تصوغ شكل السلام الممكن أو تؤسس لانقسامات جديدة. من هنا، تغدو الذاكرة أداة سياسية مركزية في إعادة ترتيب العلاقات داخل المجتمعات الخارجة من العنف.
يأتي كتاب «السلام وسياسات الذاكرة»، الصادر ضمن سلسلة «مقاربات جديدة لتحليل النزاعات» في مطبعة جامعة مانشتر، ليقدم مساهمة نظرية وتجريبية لفهم العلاقة المعقدة بين سياسات الذاكرة وبناء السلام في المجتمعات الخارجة من العنف. ويبين أن الذاكرة الجماعية بوصفها عنصراً فاعلاً لا يقل أهمية عن المعالجات السياسية والاقتصادية، إذ تحمل في طياتها إمكانات متعددة: إما أن تسهم في بناء سلام مستدام، أو تُعيد إنتاج الانقسام والصراع بصيغ رمزية.
هذا الكتاب من تأليف مجموعة من الباحثات والباحثين ذوي خلفيات متعددة، ويعتمد مقاربة متعددة الحالات لدراسة كيف تُنتج الذاكرة في مجتمعات مثل قبرص، والبوسنة والهرسك، ورواندا، وجنوب إفريقيا، وكمبوديا. لا يتعامل الكتاب مع الذاكرة باعتبارها مجرد تذكّر للأحداث الماضية، بل يفكك آليات صناعتها، من خلال تتبّع المواقع والأحداث والفاعلين والسرديات التي تُسهم في تشكيلها.
سياسات الذاكرة كأداة لصياغة السلام
يوضح المؤلفون أنه في المجتمعات الخارجة من الصراع، لا يُعدّ الماضي العنيف مجرد ذكرى، بل يستمر في الحضور من خلال طقوس التذكّر، والنُصُب التذكارية، والمراسم، والمتاحف، والاحتجاجات. تُصبح الذاكرة مجالاً للصراع الرمزي والاجتماعي والسياسي، يشارك فيه فاعلون متعددو الخلفيات، من سياسيين إلى فنّانين إلى ضحايا وأقاربهم. ويؤدي كل هؤلاء أدواراً متباينة في تشكيل سرديات الذاكرة الجماعية، التي قد تُسهم في بناء الجسور أو في تعميق الانقسامات، حيث تختلط مشاعر الحزن والاعتراف بالرفض والإنكار، ويتشكل ما يُعرف بسياسات الذاكرة.
ويقولون: «يمكن القول إن سياسات الذاكرة تدور حول التغيير والاستمرارية في آنٍ معاً. تسعى المجتمعات إلى القطع مع ماضٍ عنيف، لكنها تدرك في الوقت نفسه أن الانقسامات الاجتماعية والسياسية لا تزول بسهولة. ولذلك، ليس من المستغرب أن تحظى سياسات الذاكرة باهتمام متزايد في مجالَي دراسات السلام والعدالة الانتقالية. فمن الواضح أن الطريقة التي يُتذكّر – أو يُنسى – بها الماضي تؤثر في طبيعة السلام القائم. لكن كيف تحديداً؟ وهل هناك طرق للتذكّر لا تُسبب الأذى، بل تسهم في صنع السلام؟ هل توجد ممارسات تعترف بمعاناة الآخر من دون أن تُفاقم الانقسامات؟ طرق تتيح لأصوات متعددة أن تعبّر عن نفسها وتشير إلى مستقبل مختلف؟ هل يمكن لهذه الذكريات أن تتسرّب عبر أفعال يومية بسيطة ومتسامحة وشاملة وودودة ومتعاطفة، بدلاً من أن تكون انقسامية وعدوانية وعدائية ومؤذية؟ هذه الآمال مركزية في عمليات الانتقال من الصراع إلى السلام، لكن تحقيقها ليس بالأمر السهل. فالتشابك المتعدد الطبقات للذكريات في المجتمعات المتأثرة بالصراع تصعب الإحاطة به».
تُظهر التجارب الميدانية أن العلاقة بين الماضي والحاضر متقلبة، وأن الذاكرة الجماعية تلعب دوراً جوهرياً في التأثير في جودة السلام. ففي دول مثل البوسنة وجنوب إفريقيا ورواندا وكمبوديا وقبرص، تتحول رموز الماضي إلى نقاط اشتعال راهنة، سواء من خلال الاحتجاج على تماثيل تُجسّد شخصيات مثيرة للجدل، أو عبر تنظيم احتفالات رسمية تُعيد سرد أحداث الإبادة الجماعية أو الفصل العنصري برؤية أحادية. وتشير هذه الأمثلة إلى مدى هشاشة الخط الفاصل بين الذاكرة كوسيلة للشفاء، وبينها كأداة لإعادة إنتاج الصراع.
ينطلق الكتاب من تساؤل جوهري حول كيفية تأثير سياسات الذاكرة في السلام، ويقترح إطاراً تحليلياً يُعرف باسم (SANE)، يقوم على أربعة مداخل: المواقع، الفاعلون، السرديات، والأحداث. من خلال هذا الإطار، يُحلّل المؤلفون العلاقة بين الذاكرة والسياسة، ويبرزون ما إذا كانت الذكريات تُدار بطريقة تعددية وشاملة وتحفظ الكرامة، أم تُوظف بشكل انقسامي وغير معترف به. ويوضح الكتاب أن سلاماً عادلاً لا يتحقق إلا إذا أُديرت الذاكرة بطريقة منفتحة، تقبل التعددية والاعتراف بالآخر.
محتوى الكتاب وفصوله
يتوزع الكتاب على سبعة فصول رئيسية، بالإضافة إلى مقدمة وخاتمة تحليلية، ويوفّر لكل حالة مساحة لفهم التفاعلات المحلية والدولية في إنتاج الذاكرة السياسية، حيث يبدأ الفصل الأول بعنوان «تشكيلات الذاكرة: مقاربة تحليلية»، ويقدّم فيه المؤلفون الإطار النظري، ويوضحون من خلاله كيف يمكن استخدام هذا النموذج لتحليل تفاعلات الذاكرة وبناء السلام. وينتقل الكتاب في الفصل الثاني إلى حالة قبرص تحت عنوان «سلامان متوازيان وقوميتان متنافستان»، حيث يتناول الانقسام القومي في الجزيرة، وكيف تخلق كل مجموعة سرديات مختلفة للسلام، ما يضعف إمكانية بناء سردية جامعة. أما الفصل الثالث، «البوسنة والهرسك: ذاكرة حصار سراييفو»، فيسلّط الضوء على مركزية حصار سراييفو في سردية الحرب، ويبحث في كيفية تنافس الذكريات حول الضحايا والهوية القومية.
وفي الفصل الرابع، بعنوان «رواندا: دور الفاعلين الدوليين»، يناقش الكتاب كيفية تدخل المنظمات الدولية في صناعة الذاكرة، ومدى تأثير ذلك في السردية الوطنية والمصالحة الداخلية، ليتبعه الفصل الخامس تحت عنوان «جنوب إفريقيا: تركة الاستعمار والفصل العنصري»، حيث يستعرض التحديات التي واجهتها الدولة في تمثيل الماضي العنصري بإنصاف، وسط محاولات التوفيق بين الإنصاف والمصالحة. ويتناول الفصل السادس، «كمبوديا: سلطة الموتى»، تحليلاً لكيفية استدعاء الموتى والضحايا في الخطاب السياسي المعاصر، ودورهم في تشكيل الوعي الجمعي حول الماضي الدموي. وأخيراً، يقدّم الفصل السابع، «الذاكرة وجودة السلام: التعددية، الكرامة، الشمول»، خلاصة نتائج الحالات السابقة، ويقترح معايير لتقييم مدى عدالة السلام من منظور ذاكراتي، مشدداً على أهمية تعدد الأصوات والاعتراف بكرامة الضحايا.
يناسب هذا الكتاب عموم القراء، ولكنه سيكون مفيداً بالدرجة الأولى للباحثين في مجالات العلاقات الدولية، وبناء السلام، ودراسات ما بعد الاستعمار، كما يقدّم رؤى مفيدة للجهات الفاعلة في تصميم السياسات العامة وبرامج المصالحة. ومن خلال دعوته إلى نهج يقوم على التعددية والكرامة والاعتراف، يذكّر الكتاب بأن السلام الحقيقي لا يمكن بناؤه على إنكار الماضي أو إسكات أصواته، بل على القدرة الجماعية على استيعابه والتعامل معه بشفافية وإنصاف.
0 تعليق