حوار:عهود النقبي
في حروب مستمرة، تأبى بلاد الخير إلا أن ترسل طيورها البيضاء، لرفع ما يُمكن من الشدة والبلاء، وأحد طيورها في صفحات «الخليج» اليوم، يضعنا في مشهد حي حول مسار رحلته إلى غزة، تحديداً إلى المستشفى الميداني المستمر في جهوده لنجدة الأشقاء في فلسطين.
الدكتور نافع الياسي استشاري جهاز هضمي أطفال في مدينة الشيخ خليفة الطبية، يروي لنا سيرة رحلته في علاج جرحى الحرب في غزة، ليؤكد أنه سبق هذا الواجب وصية والدنا المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، تجاه إغاثة الملهوف أينما كان.
يؤكد الدكتور الياسي، أن قرار التطوع لم يسبقه أي تفكير، فعملية الفارس الشهم وضعت الفرصة الأغلى بين أيادي الأطباء لأداء واجبهم الإنساني، فمنذ لحظة تواصلهم المبدئي، غلب الحماس الجميع للذهاب ونجدة الأشقاء في فلسطين، ولم نكن نملك دافعاً أكبر من الإنسانية وأعمق من المحبة، بالرغم من الرهبة والخوف الذي كان حاضراً، بسبب التداعيات في المنطقة وما تشهدهُ من توتر، بل وأن المنطقة التي يوجد بها المستشفى تعتبر منطقة حرب، إلا أن الذهاب تحت مظلة دولة الإمارات شكّل لنا نقطة أمان وحافزاً لأداء الواجب.
ويضيف: كنا نحمل يقيناً متيناً بأننا في رعاية الله ومن ثم القيادة الرشيدة، حتى مع عدم وجود الضمان في أننا لن نتعرض للأذى على الإطلاق، قابل هذا الاحتمال فرحة تداخلت في نفوسنا على الفور، لذلك لم يسبق هذا القرار أي تفكير أو استشارة أو تردد، حتى أن أفراد أسرتي علموا في الأيام الأخيرة قبل السفر، لأننا نعلم ما هي الوجهة، وما هي الرسالة، وما هو الواجب الذي سنخرج به من أرض الوطن.
وفي هذه الرحلة التطوعية، وضعنا الدكتور نافع في مطلع هذه القصة الإنسانية ليقول: لحظة وصولنا إلى العريش الحدودية رأينا نزوحاً ضخماً، ومخيمات ممتدة على مد البصر، فقد كانت هذه المنطقة الوحيدة الآمنة بالنسبة لهم.
ويزيد: نحن كأطباء تجاوزنا تعقيد الحالات الطبية، ولكننا لم نتجاوز السبب الحقيقي وراء ما حدث، فالصعوبة كانت تكمن بمعرفتنا الحقيقة وراء وجود الجريح أو المصاب في هذا المستشفى، فحينما أنظر لحالة طفل تحتاج رجله إلى بتر، عملية البتر ليست صعبة على الإطلاق، لكن هذا الطفل يوجد أمامنا بسبب قصف مستمر في الخارج، يوجد أمامنا بحالة نفسية صعبة جداً، فهو شاهد على مقتل أقاربه وأحبته، يقابل ذلك كل من استعان بالمستشفى الميداني وفضَّلَهُ كمكان للإقامة به لسوء الوضع الإنساني وعدم الاستقرار الذي تشهده المنطقة.
غزة هي القصة الإنسانية الأكبر
ويذكر الياسي أن وجوده في غزة ليس لهدف التطبيب فحسب، ويضيف: أنا كاتب، والسِّيَر القصصية والمشهد والحدث، تهمني جداً، وغزة بأكملها كانت قصة إنسانية مؤلمة، ونقل الحدث لمن يهمه الحدث كان واجباً آخر لا يقل أهمية عن واجبي الذي أقدِّمه كطبيب.
ويستمر: واحدة من القصص الصعبة التي مرت عليَّ خلال وجودي في المستشفى الميداني، قصة الطفلة فاطمة التي تبلغ من العمر تسع سنوات، والتي كانت تعاني انسداداً في وريد بالكبد، وهي حالة نادرة جداً تصيب الكبار، وكطبيب متخصص في أمراض الجهاز الهضمي والكبد لم تمر عليَّ حالة مشابهة خلال عملي في الدولة، وهي الأولى في غزة، وقد تتسبب بفشل في الكبد، وبالنسبة للأطفال وكحالة مرضية فهي مقروءة فقط في الكتب العلمية لندرتها، ومن ضمن الأدوية التي كانت تحتاجها فاطمة هي أدوية لتفادي تشنجات الأعصاب، والتي توقفت عن تناولها بسبب الحرب، وهنا بدأت معاناة الأب عبدالرحمن الذي حاول الحصول على الأدوية لإنقاذ ابنته من خلال بحث مستمر في المستشفيات، حتى وصوله إلى المستشفى الميداني الإماراتي، وحينما عرض علي حالة ابنته، رأيت أنها بحاجة إلى إجراءات كثيرة وليس للدواء فحسب، خاصة أنها تعاني حالة متقدمة من فشل الكبد، ونهضت بعد سؤالي عن الدواء الذي يبحث عنه، وأتيت به من الصيدلية، وهو الأمر السهل الهين بالنسبة لنا في الإمارات أن تحصل على دواء، ولكن بالنسبة لعبدالرحمن والد الطفلة فاطمة، كان الأمر يستحق قبلات عديدة على علبة الدواء، ودهشة يطول وصفها، فلم أستطع تحمل منظر الأب وهو يشاهد علبة الدواء على أنها معجزة، الأمر الذي أشعرني بأنني موجود حقاً في المكان الصحيح.
وصية المؤسس
ويؤكد الياسي أنه بجانب واجبنا الإنساني، فقد سبق هذا الواجب وصية والدنا المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، تجاه الشعب الفلسطيني، وإغاثة الملهوف أينما كان، بعيداً عن الجنس والعِرْق والدين، تعلمنا من زايد أنه لا بد أن يحضر الإنسان لخدمة أخيه الإنسان، دائماً وأبداً، ولا يتهاون بل يفعل ما بوسعه لنجدته، والإمارات بلد تقول ما تفعل وتفعل ما تقول، نحن نمثل بلداً يُسابق الخير، بل ويتحدى جميع الظروف ليحضر وأهله وشعبه في الميدان، نحن حقاً أهل ميدان، الأحبة والأشقاء في فلسطين، تربطنا بهم علاقة خالدة من الحب والتقدير، لا تشوبها شائبة، فلم نتلق إلا كلمات التقدير منهم، ولم يُقابل واجبنا هذا إلا الإحسان وهم أهلٌ لذلك.
عملية تنظيمية مذهلة
ويشير إلى العملية التنظيمية للفارس الشهم متحدثاً: كانت هناك عملية أشبه بسير متواصل وتناوب للأطباء بين البلدين، وهذا ما أثار دهشتنا واستحساننا بأنه وبالرغم من صعوبة الوقت والظروف غير المستقرة، إلا أن التحرك كان مدروساً ومهنياً وذا كفاءة، منذ التواصل الأول وحتى اعتماد الأسماء إلى حين موعد السفر ووصولنا إلى غزة، مع العلم أن كل طبيب لا تطول رحلته أكثر من 3 أو 5 أسابيع، ليتم تنسيق عودتنا والاستعداد لإرسال أطباء جدد إلى الميدان، وذلك حسب احتياج الأهالي والمصابين في غزة لمختلف التخصصات الطبية، وكأن الدولة كانت تملك مشهداً حياً للوضع، وهذا ما يفسر دهشتنا تجاه هذا التنظيم الاحترافي.
ويوضح: نحن نتحدث عن مستشفى ميداني يقدم كافة الخدمات الطبية داخل منطقة حرب، نعمل بشكل منظم يبعد كل البعد عن الفوضى والعشوائيات، من حيث جداول الحضور وتموين الأدوية وطلبات المرضى، فهناك إحدى الحالات التي كانت تتطلب تدخلاً طبياً لجراحة الفك، ولم يكُن يتوفر في حينها طبيب بهذا التخصص، فتم التنسيق مع الجهات المعنية لإرسال طبيب متخصص في جراحة الفك، وتم بالفعل إرساله على الفور، لنكتشف أن هناك العديد من الحالات التي تتطلب تدخلاً جراحياً من هذا النوع، والأمر يعود إلى الحالة التنظيمية المذهلة.
وفي نهاية هذه الرحلة الإنسانية، لم يتمنى الدكتور نافع سوى فرصة العودة مُجدداً، فهذه هي الأمنية التي غالبت قلوب الأطباء جميعاً.
التجربة ضاعفت من تقديري لنعمة أن تكون إماراتياً
يقول الدكتور نافع الياسي استشاري جهاز هضمي أطفال في مدينة الشيخ خليفة الطبية: هذه التجربة التطوعية ضاعفت تقديري لجميع النعم التي ننعم بها نحن كمواطنين إماراتيين، فوجودك في منطقة حرب يُشعرك بأهمية الدواء للمريض، في حين أننا في دولة الإمارات يصلنا الدواء عن طريق لمسة واحدة في تطبيق إلكتروني، بل وإلى المنزل، نعلم حينها أننا لسنا في وطنٍ عادي، بل تحت مظلة قيادة رشيدة تُمكّن نفسها وتكبر بخدمة أهلها، وبجانب الصحة، لا نملك أعظم من نعمة الأمن والأمان الذي نعيش به.
أخبار متعلقة :