نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الخط العربي بين الأصالة والتجديد.., اليوم الاثنين 19 مايو 2025 11:53 مساءً
نشر بوساطة يوسف عبد الله البركاتي في الرياض يوم 19 - 05 - 2025
في خطوة تعبّر عن سعي المملكة الحثيث نحو تجديد التراث وتقديمه في قالب معاصر، أعلنت وزارة الثقافة السعودية في 16 أبريل الماضي عن تدشين الخطين الطباعيين «الخط الأول» و»الخط السعودي» واللذين يمثلان نقلة نوعية في مسيرة الخط العربي، وهي خطوة تهدف إلى إحياء روح الخط العربي المستلهم من أقدم النقوش والمصاحف، وتعزيز حضوره في العصر الرقمي. هذه المبادرة تجسّد توجهًا استراتيجيًا ضمن رؤية السعودية 2030م التي تضع الثقافة واللغة العربية في صميم التحولات الوطنية.
ومع تسارع التحولات التقنية وتشابك الثقافات، يبقى الخط العربي شاهدًا حيًّا على عراقة الحضارة وعمق الهوية. ليس مجرد وسيلةً للكتابة، بل فن بصري يحمل بين ثناياه فلسفةً جمالية وروحية، تشكّل وجدان الإنسان العربي المسلم، وتُعبّر عن ارتباطه العميق بالمعنى، والحرف، والزمن.
يقول ابن خلدون (توفي 808ه/1406م) في مقدمته الشهيرة: «الخط صناعة شريفة، يتميز بها الإنسان عن غيره، وبها تؤدَّى الأغراض؛ لأنها المرتبة الثانية من الدلالة اللغوية». بهذا يؤكد ابن خلدون أن الخط العربي أداة تعبير فني وفكري عالية المنزلة، تلي مرتبة دلالات اللفظ والكلام في التأثير. إنّ الخط العربي يتجاوز حدود حروف اللغات الأخرى في تشكيل إيقاع بصري يعكس رؤية فلسفية للجمال والتوازن والتناسق.
وقد عبر سيدنا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- عن هذه الفكرة بقوله الحكيم: «الخط الحسن يزيد الحق وضوحًا». ففي تلك النقولات وغيرها تجسيدٌ لمكانة الخط العربي الرفيعة بوصفه أداة لنقل المعاني وتحقيق الجمال، وجسرًا يصل بين الفكر والفن في أبهى صورة.
لقد مر الخط العربي بمراحل غنية بالتطور عبر التاريخ؛ إذ تعود جذوره إلى الخط النبطي الذي تطور، ثم ظهر الخط الكوفي كأحد أقدم الخطوط وأكثرها ارتباطًا بالنقوش والمصاحف الأولى. وفي ظل العصر العباسي، ظهرت الأقلام الستة التي وضَع أصولها الخطاط ابن مقلة (توفي 328ه/940م)، ومن ثَمّ بلغت ذروتها وكمالها على يد الخطاط ابن البواب (توفي 413ه/1022م). تتمثل تلك الأقلام في: النسخ، الثلث، المحقق، الريحان، التوقيع، والرقاع، وقد شكلت مدرسة فنية وجمالية متكاملة ما تزال تُدرّس وتستلهم حتى اليوم.
أما الخط العثماني فيستحق منا تخصيصًا بالذكر، وعناية بالتفاصيل؛ فهو رسم المصحف الشريف الذي ارتضاه سيدنا عثمان بن عفان والصحابة الكرام في زمنه -رضوان الله عليهم- لكتابة كلمات القرآن الكريم وحروفه؛ فله خصوصية كبيرة في التاريخ الإسلامي، وقد اعتنى العلماء بهذا العلم وألفوا فيه مؤلفات عديدة من أبرزها كتاب المقنع في رسم مصاحف الأمصار لمؤلفه أبي عمرو الداني (توفي 444ه/1053م)، وكتاب الدليل في رسوم خط التنزيل لمؤلفه أبي العباس المراكشي (توفي 723ه/1323م). كما يُعدّ الخط العثماني أساسًا لفهم النص القرآني وتلاوته بشكل صحيح؛ مما جعله وسيلة لحمايته من التحريف؛ إذ كُتبَ النص القرآني بالطريقة التي تعكس كيفية النطق والقراءة، وتظهر الكلمات في صيغتها الأصيلة، وما يزال الخط العثماني معتمدًا وموقوفًا في الرسم والخط لكافة جهود كتابة المصاحف حتى اليوم، وأضحى جزءًا من الهوية الروحية والجمالية للقرآن الكريم.
الحضارات الإسلامية المختلفة ألقت بظلالها في التأثير على رحلة التطور للخط العربي؛ حيث ظهرت المدرسة المغربية بأنماطها الأندلسية والمغاربية المميزة التي عُرفت بليونة حروفها وانحناءاتها الزخرفية، وفي الشرق الإسلامي، برز الخط الديواني والخط الفارسي (النستعليق) بأناقتهما الخاصة، وكلها شهادات على قدرة الخط العربي على الاندماج مع الجماليات المحلية لكل حضارة دون أن يفقد أصالته. وبهذا الامتداد الزمني والجغرافي، بقي الخط العربي وفيًّا لروحه مع احتضانه للتجديد، محافظًا على توازنه بين الجمال والوظيفة، وبين التعبير الفني والرمز الحضاري، وعلى ارتباطه العميق بالهوية واللغة. لقد ظل الخط العربي مرآةً للذوق والوعي، وزينةً لأهله في كل عصر، يجمع بين الجمال والتهذيب، والأصالة والرصانة.
شهد الخط العربي طوال تاريخه الطويل تواصلاً حضاريًا غنيًا ألهم العقول والقلوب في العالم الإسلامي وخارجه. لم يكن الخط العربي مجرد فن للزينة أو تدوين النصوص الدينية والأدبية، بل أصبح لغة بصرية تحمل في طياتها رموز الهوية، والذوق الرفيع، وروح الإبداع. ولعل انتشار معارض ومتاحف اللغة العربية في الدول الغربية خير دليل على هذا التأثير، حيث تحظى لوحات الخطوط العربية المزخرفة بإعجاب بالغ، فتأسر ألباب الزائرين بمختلف خلفياتهم الثقافية. فما أن يتجول الزائر في أروقة هذه المعارض، حتى يستوقفه جمال الخط وقدرته على التعبير الفني، فتتحول الحروف العربية إلى تحف فنية تعكس عمق الحضارة العربية وروعتها.
ومن الطرائف اللافتة ما حكاه لي صديقي المقيم في البرازيل عندما أقيم أحد المعارض العربية في مدينة ساو باولو البرازيلية أبدى بعض الزوار من جيل الشباب، لا سيما الفتيات إعجابهم الشديد بالخط العربي، فطلبوا حفر وشم على أجسامهم يحمل كلمات عربية، تعبر عن معانٍ عظيمة مثل «محمد» و»اللغة العربية»، وعبارات أخرى ذات دلالات ثقافية وروحية، (مع التحفظ على حكم الوشم في الإسلام)، ومن جانب آخر.. يشارك الخطاطون العرب في هذه الفعاليات بكتابة أسماء الزوار بالخطوط العربية البديعة، وهو ما يترك في نفوسهم حالة من الدهشة والانبهار أمام روعة الخط العربي وسحر نقوشه؛ ليغدو بذلك هذا الفن جسرًا حقيقيًا للتواصل الحضاري والتقارب الإنساني، تتلاقى عنده الثقافات وتتجدد فيه الروابط بين الشعوب.
إن الخط العربي اليوم يواصل رحلته نحو العالمية، فها هو (الخط السعودي) الجديد الذي أطلقته وزارة الثقافة السعودية مع (الخط الأول) يجسدان هذا التوازن بين الحداثة والهوية، بتصميم يستلهم التراث المحلي، ويخاطب العين المعاصرة برشاقته ونسبه. وصدق من قال: «الخط لسان اليد، وترجمان الإنسان»، فإن الهوية البصرية لأي دولة لا تكتمل دون خط يُعبّر عنها، يعكس شخصيتها، ويترجم ثقافتها في كل وثيقة، أو إعلان، أو شعار.
إنّ الخط السعودي والخط الأول يمثلان امتدادًا لمبادرات وزارة الثقافة، مثل: «عام الخط العربي»، وإعادة إحياء «دار القلم» تحت اسم مركز الأمير محمد بن سلمان، وجهود المملكة بالتعاون مع 15 دولة عربية لإدراج الخط العربي ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي لليونسكو.
على الرغم من هذا المجد العريق للخط العربي وتجدده عبر العصور، إلا أنه واجه وما يزال يواجه تحديات عديدة في عصرنا الحديث تهدد استمراريته وانتشاره بين الأجيال الجديدة. من أبرز هذه التحديات بروز الحاسوب والتقنيات الرقمية، حيث فرضت الطباعة الإلكترونية وأنظمة الحواسيب معيارًا جديدًا للكتابة أدى إلى تراجع استخدام الخط اليدوي. ولأن طبيعة الحروف العربية مرنة وغنية بالاتصال والتشبيك؛ فقد واجهت الشركات التقنية صعوبات كبيرة في تصميم خطوط طباعية رقمية تُحاكي جماليات الخط العربي التقليدي. ومع ذلك، جاءت مبادرات إطلاق «الخط السعودي» و»الخط الأول» لتوجد حلولًا رائدة في تطوير خطوط عربية طباعية تواكب معايير العصر الرقمي، وتعيد للخط العربي مكانته المرموقة في بيئة الحوسبة الحديثة.
إلى جانب ذلك، شكلت رداءة الخط العربي -وغير العربي كذلك- لدى الكثير من الناس عائقًا أمام انتشاره؛ إذ إن تعلم الخط العربي وإتقانه يحتاج إلى جهد وتدريب وأدوات متخصصة، وفي زمن تراجع فيه التعليم الفني في المدارس، وأغنت التقنية عن الحاجة إلى الخط اليدوي، فأوشك حُسن الكتابة أن يطويه النسيان. كما عزف كثير من الشباب والناشئة عن إتقان مهارات الخط العربي، واكتفوا بالاعتماد على لوحات المفاتيح والبرامج الجاهزة. ولعل أخطر هذه التحديات يكمن في فقدان الحس الجمالي، وقلة الوعي بأهمية الخط كجزء أصيل من الهوية والثقافة.
من هنا، تتجلى الحاجة إلى مبادرات تعيد للخط العربي وهجه، تجمع بين الأصالة والتقنية، وتستثمر في برامج تعليمية حديثة ومسابقات وفعاليات تعيد الخط العربي إلى دائرة الاهتمام، محافظةً على دوره الحضاري والفني كجسر يربط بين الماضي والمستقبل، ويمنح الأجيال القادمة هوية بصرية فريدة تستحق الاعتزاز.
إننا اليوم أمام دعوة متجددة للنظر إلى الخط العربي برؤية فنية مفتوحة على المستقبل، تستوعب التقنية ولا تنفصل عن الجذور؛ ليحمل رسالة ثقافية تتعدى حدود المكان والزمان، وتغذي قيم التلاقي والتفاهم بين الناس في كل مكان. وكما قيل: «إن جَوَّدت قلمك، جودت خطك، وإن أهملت قلمك أهملت نفسك». فلنمنح هذا الفن العظيم ما يستحقه من تطوير ورعاية؛ لأنه ببساطة، ليس ماضيًا فقط، بل مستقبلٌ يُكتب من جديد.
نماذج للخطين الأول والسعودي بريشة الخطاط إبراهيم العرافي
انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.
0 تعليق